كتب عماد الشدياق:
أظهرت العقوبات الغربية ضد روسيا فشلاً ذريعاً في وقف الحرب، وانحدر خطاب الزعماء الغربيين منذ بداية الحرب نهاية شهر شباط/ فبراير إلى اليوم؛ من مصاف "تدمير الاقتصاد الروسي" إلى مصطلحات تتحدث عن البحث لروسيا عن مخرج.
هذا المخرج الذي تبحث عنه الدول الغربية وتحديداً الأوروبية، لا يبدو أنّه لروسيا تحديداً، وإنّما للدول الغربية نفسها التي لا تريد الاقتناع بأنّ العقوبات الاقتصادية لم تأتِ بأيّ نتيجة من أجل وقف الحرب.
ثمة أسئلة لا بدّ من طرحه بعد مضيّ قرابة أربعة أشهر على الحرب؛ أسئلة من صنف: أين تقف العقوبات اليوم؟ وماذا حققت في مسيرة وقف الحرب؟ وهل هناك ما يمكن إضافته من عقوبات بغية الوصول الهدف؟ وما هو الهدف من العقوبات أصلاً؟ وهل كانت فعلاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يريدان وقف الحرب عن طريق هذه العقوبات أم العكس؟
الجواب السريع على مدى نجاح العقوبات بسيط جداً: لا شيء. أمّا عن أسباب فشلها، فذلك نقاش آخر يستدعي الغوص في المزيد من التفاصيل، التي نسردها في النقاط أدناه:
أين تقف العقوبات اليوم؟ وماذا حققت في مسيرة وقف الحرب؟ وهل هناك ما يمكن إضافته من عقوبات بغية الوصول الهدف؟ وما هو الهدف من العقوبات أصلاً؟ وهل كانت فعلاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يريدان وقف الحرب عن طريق هذه العقوبات أم العكس؟
1- في المبدأ فإنّ أيّ عقوبات ردعية هدفها منع الدولة المستهدفة بالعقوبات من استكمال تحرّكها، وبما أن العقوبات ضد روسيا لم تؤد بها إلى التراجع عن عمليتها العسكرية، بل أدت إلى العكس؛ دافعة إياها إلى مزيد من التوغل داخل الأراضي الأوكرانية، فإنّ هذا يعني، بديهياً في الشكل وقبل الدخول بالمضمون، أنّ سياسة الردع من خلال العقوبات قد فشلت.
2- عَجِز الغرب في تحقيق إجماع على العقوبات، فتخلّفت عنها دول كثيرة مؤثرة في الساحة الدولية، على رأسها الصين ومن بينها أيضاً دول مجلس التعاون الخليجي التي فضّلت البقاء على الحياد والدعوة إلى ضبط النفس. حتى تركيا العضو الأبرز في حلف شمالي الأطلسي (الناتو) لم تلتزم بالعقوبات، وأبقت على تواصلها مع موسكو. هذا أيضاً ما فعلته الهند وباكستان.
كل هذه الدول لم تقف إلى جانب أوكرانيا ولا الغرب، لأنّها على ما يبدو لَمَسَت منذ اللحظات الأولى لاندلاع الصراع، أنّ الولايات المتحدة تضغط على كييف وتؤثر في قرارت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أجل خوض المواجهة ضد "الدبّ الروسي"، وهذا أفضى في نهاية المطاف إلى تورط أوكرانيا بحرب ضروس منفردة، فلم يقف إلى جانبها الغرب إلا بالمساعدات والأسلحة، فتسبب ذلك بتدمير نصف أوكرانيا إلى الآن. وهنا لا بدّ من العودة إلى مرحلة ما قبل 24 شباط/ فبراير، يوم عرضت روسيا التفاوض مع الغرب ومع الأوكرانيين قبل إطلاق العملية العسكرية، وحذرت في حينه من أنّ هذا المنحى سيقود إلى مسار تدميري قد يصعب الرجوع عنه، لكنّها لم تلقَ آذاناً صاغية، وكأن هناك من كان يدفعها صوب خوض الحرب.
العقوبات أدّت إلى رد فعل عكسي، ودفعت ببعض الدول صوب التعاون مع روسيا وليس إلى مقاطعتها. فقد كشفت روسيا قبل مدة، عن مفاوضات تجريها بورصة موسكو لإطلاق تداول الريال السعودي والدرهم الإماراتي وخلافها من العملات مقابل الروبل الروسي، وذلك بعد تراجع الطلب على الدولار واليورو لديها
3- العقوبات أدّت إلى رد فعل عكسي، ودفعت ببعض الدول صوب التعاون مع روسيا وليس إلى مقاطعتها. فقد كشفت روسيا قبل مدة، عن مفاوضات تجريها بورصة موسكو لإطلاق تداول الريال السعودي والدرهم الإماراتي وخلافها من العملات مقابل الروبل الروسي، وذلك بعد تراجع الطلب على الدولار واليورو لديها. هذه الخطوة تأتي بعكس سياق العقوبات، وتشير إلى أنّ العقوبات لم تؤدِ إلى عزل روسيا بل العكس تماماً. هذا التعاون سيرفع التبادل التجاري بين موسكو ودول مثل مصر، وكذلك دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتان رفضتا رفع إنتاجهما من النفط ضمن "أوبك"، وذلك بالتماهي مع روسيا وبخلاف إرادة الولايات المتحدة.
4- تظهر الأرقام الاقتصادية لروسيا، أنّ الطلب على عملتي الدولار واليورو تراجع في ظل انخفاض الاستيراد من الدول الغربية نتيجة العقوبات. وبالتالي فإنّ التخلي عن هاتين العمليتين يُترجم ولو في المدى المنظر والقريب؛ تلافياً لـ"السلاح" الذي تستخدم واشنطن لمعاقبة كل من يخالفها الرأي. فكلما ابتعدت روسيا عن الدولار، أصبحت معاقبتها أصعب، ويمكن الاستدلال إلى ذلك من خلال سعر صرف الروبل الروسي الذي أخذ يتحسّن أمام الدولار بعد نحو شهرين من بداية الحرب، فوصل إلى أرقام لم يرها من قبل وحتى قبل الحرب مع أوكرانيا.
5- دول أوروبية كثيرة ما زالت حتى اللحظة عاجزة عن الاستغناء عن الغاز والنفط الروسيين، لعدم وجود بدائل جدية، وهذا يدّل على أنّ حزمات العقوبات الستّ التي أقرتها الدول الغربية إلى اليوم، ما زالت صورية ولم تؤثر على الاقتصاد الروسي طالما أنها تستثني النفط والغاز خصوصاً. بل إن دولا أوروبية كثيرة لا تريد فرض العقوبات على روسيا في مجال الطاقة قبل نهاية العام الحالي؛ لأنها ستكون من أكثر الدول تضرراً.
6- التأخّر في فرض العقوبات النفطية على روسيا، فتح المجال أمامها للبحث عن زبائن آسيويين بدلاً من الدول الأوروبية، فوصل الأمر بها إلى أنها باتت هي من يبادر إلى وقف تصدير السلع وقطع الغاز عن الدول الأوروبية وليس العكس. قطعته عن فنلندا وبولندا وبلغاريا وهولندا وأخيراً فرنسا، بسبب امتناعها عن السداد بالروبل الروسي الذي تحوّل إلى عملة غير تقليدية بديلة عن الدولار في سوق النفط والغاز.
وفوق ذلك، فرضت روسيا حظراً على صادرات السيارات والطائرات والطائرات المسيرة حتى نهاية العام، ناهيك عن مواد مثل الأسمدة والمعادن اللازمة للصناعات التكنولوجية والاتصالات السلكية واللاسلكية والطبية والمركبات والآلات الزراعية والمعدات الكهربائية، التي وصلت إلى نحو 200 عنصر، بما في ذلك عربات السكك الحديدية، والقطارات، والحاويات، والتوربينات وآلات معالجة المعادن، والحجر، والشاشات وأجهزة العرض ووحدات التحكم، واللوحات.
7- العقوبات الغربية على روسيا ارتدت سلباً عليها وعلى العالم كلّه، وباتت تهدّد اليوم بركود اقتصادي مرعب، وكذلك تضخم بلغ مستويات قياسية في كل من أمريكا وبريطانيا والعديد من الدول الأوروبية، فدفع بأغلب المصارف المركزية حول العالم إلى رفع معدلات الفائدة من أجل امتصاص هذا التضخّم. كما أدت إلى ارتفاع أسعار المحروقات والسلع وتكاليف الشحن والتأمين، التي باتت تلاحق المستوردين والحكومات الغربية وتنذر بانفجار اجتماعي إذا ما استمرت على هذا المنوال مستقبلاً.
بعد هذا كلّه، تؤكد الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أنّ الحلّ يكون بضخ المزيد من السلاح إلى أوكرانيا، وكذلك رفض الحلول السياسية والدبلوماسية. وكأنّ ثمة من لم يشبع دماً إلى اليوم، وأن المطلوب هو إزهاق المزيد من الأرواح حتى آخر جندي أوكراني، ومن دون أيّ محاولة لاجتراح الحلول من خارج خيار البارود والمدافع!