كتب عماد الشدياق في "عربي21":
ما كشفته المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، حول أوكرانيا الشهر الماضي، ثمّ أكد عليه بعد أيام الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، كان سابقة خطيرة أضعفت من حجج الغرب في مواجهة روسيا، وعززت من موقف الأخيرة في حربها مع أوكرانيا، لكنّه في المقابل أيضاً، دفع بالدول التي تعتمد على الحماية الغربية إلى التفكير مرتين وأكثر.
"امرأة ألمانيا الحديدية" أعلنت قبل مدة في حديث صحافيّ، لأول مرة وبشكل علني، أنّ اتفاقيات مينسك كانت تهدف إلى "منح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية"، وقد استغلت أوكرانيا هذه الفرصة، وباتت أقوى مما كانت عليه في العام 2014. ميركل قالت إنّ اتفاقات مينسك "لم تُنهِ الأزمة في شرق أوكرانيا، إلاّ أنّها جمدتها لفترة من الزمن"، كون حلف شمالي الأطلسي "لم يكن قادراً على إمداد القوات الأوكرانية بالأسلحة خلال تلك الفترة، وبالوتيرة نفسها التي يقدم عليها اليوم".
اتفاقيات مينسك كانت تهدف إلى "منح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية"، وقد استغلت أوكرانيا هذه الفرصة، وباتت أقوى مما كانت عليه في العام 2014
وبعد أيام على هذا التصريح، أكد الرئيس هولاند ما قالته ميركل، وقال إنّه من خلال تلك الاتفاقيات "عززت أوكرانيا إمكاناتها العسكرية، وأصبح الجيش الأوكراني مختلفاً تماماً. ميزة الاتفاقيات أنها وفّرت لجيش أوكرانيا مثل هذه الفرصة".
التصريحان أحدثا موجة مضادة في أوساط الرأي العام الأوروبي، التي رأت أنّ التصريحين يمنحان كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزناً إضافياً، حينما يتحدث عن "إمبراطورية الأكاذيب" التي يمثلها المعسكر الغربي، ويعزّزان من فرص "تفهّم الحجج روسيا"، خصوصاً في سياقها الأمني.
ما الذي حصل في مينسك؟
نصت اتفاقيات "مينسك"، في حينه، على حلّ الأزمة في شرق أوكرانيا من خلال: وقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وعدم التعرض للمدنيين المتحدثين باللغة الروسية في تلك المناطق.
في ذلك الوقت، وقع الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، على الضمانات، وانتظر أن يُلقي الجانب الآخر أسلحته ويجلس إلى طاولة المفاوضات. وبمجرد أن استوفى الشروط المفروضة عليه، سقطت السلطة في كييف بانقلاب مسلح، وبالكاد تمكن يانوكوفيتش من الفرار من بلاده إلى روسيا، فيما كان "ضامنو" حصانته يهنئون الرئيس الجديد بعد أشهر. ثم لاحقاً اقتصرت ردود فعل الدول الغربية الضامنة على توجيه الإنذارات والدعوات إلى الجانب الموالي لها، للعودة إلى الأطر الدبلوماسية من أجل تسوية النزاع.
موسكو تستخلص العبر
أمّا اليوم، وعلى الرغم من هذين التصريحين الصادمين في مضمونهما وتوقيتهما، وكذلك في تأثيرهما على وقع حمأة المعارك في أوكرانيا، إلاّ أنّهما تركا ارتياحاً في الداخل الروسي، وحفّزا القيادة الروسية على تنفيذ "هجمة سياسية" مرتدّة، بعد كشف ما كان يضمر لها الغرب من مخططات.
وعليه، فإنّ الروس بنوا مجموعة من الملاحظات ربطاً بتلك التصريحات، وهي على الشكل التالي:
1. ما كشفه ميركل وهولاند يؤكدان أنّ اتفاقيات مينسك كانت بمنزلة "خداع عالمي"، شاركت فيه دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على السواء، وأنتجت صراعاً يدور في أوكرانيا ويزهق حياة الآلاف من الضحايا، وبالتالي كان يمكن تفادي تلك الحرب الدائرة اليوم، لو التزمت أوكرانيا بمضمون الاتفاقيات.
2. كان الغرب طوال تلك المدة (8 سنوات) يعيد تشكيل المجتمع الأوكراني بشكل مكثف، ويعيد بناء الجيش الأوكراني ويزوّده بالأسلحة الحديثة من أجل الصدام مع روسيا، وهذا يؤكد أنّ الحرب كانت ستقع عاجلاً أم آجلاً.
3. الثقة في الدبلوماسية الغربية ومدى صوابية إبرام الاتفاقات معها باتت معدومة، خصوصاً مع الشخصيات السياسية الغربية التي شاركت بصياغة وإخراج تلك الاتفاقيات.
4. إنّ توقيع الاتفاقيات في حينه برعاية الدول الغربية لم يؤد إلى فقدان الثقة بالغرب فحسب، بل أثبت أنّه كان جريمة ارتكبها الغربيون، ويجب أن يُحاسبوا ويدفعون تعويضات لسكان دونباس بسبب خداعهم.
5. على الرغم من شكوك موسكو بعدم التزام أوكرانيا بمضامين تلك الاتفاقيات في حينه، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أبداً أنّ موسكو كانت على خطأ، لأنّ الاتفاقيات أعطت روسيا الفرصة لتأخير الحرب الشاملة لمدة ثماني سنوات، وقامت خلالها بواجباتها لناحية دفع جيرانها إلى التفكير ملياً بأنّ "السلام السيئ أفضل من الحرب الجيدة".
6. لم تنجح موسكو في مساعي السلام، لكنّها تترفع اليوم عن اللوم، لأنّها كانت تأمل في ظروف أفضل، تجنبها قدر الإمكان استخدام القوة ضد جيرانها، الذين كانوا معها "جسماً واحداً" في الماضي القريب.
7. أثبت شركاء روسيا الغربيين أنّ اللغة الوحيدة التي يفهمونها جيداً هي لغة القوة، لأنّ التحدّث بتلك اللغة هو السبيل الوحيد لضمان الاستقلال والحق في الوجود.
8. إنّ الدول التي يغرقها الغرب بعطفه اليوم، ويعرض عليها التخلي عن وحدة أراضيها واستقلالها، والبرامج العسكرية والاقتصادية مقابل ضمانات أمنية، ينتظرها المصير نفسه الذي حصل مع أوكرانيا.. وهذا ما أثاره الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، يوم رأى في تصريحات ميركل انقلاباً جذرياً، وإشارة واضحة إلى من يجب الوثوق بهم. يومها سأل فوسيتش الغرب عن مصير البلدان الصغيرة مثل بلاده، صربيا، طالما أنّ الغرب لم يلتزم بضماناته مع دولة كبرى مثل روسيا الاتحادية.
9. لا يمكن الحديث اليوم عن أي تكافؤ بين الغرب وروسيا، لأنّ الضمانات التي يقدّمها الغرب، لا تساوي الورق الذي تُكتب عليه، وهي مجرّد محاولات لشراء الوقت في سبيل "نصب المكائد".
10. روسيا سوف تستخلص العبر والنتائج من كل ما حدث، وستأخذ بعين الاعتبار ما كشف عنه زعيما فرنسا وألمانيا السابقين، لأنّه جوهر السياسة العالمية، وثمن "الضمانات" التي يقدمونها ويتحدثون عنها.