عماد الشدياق نقلاً عن "عربي 21"
حجج كثيرة تسوقها دول الاتحاد الأوروبي، منذ سنوات، من أجل منع تركيا من الانضمام إلى الاتحاد. تارة تقول إنّ تركيا لا تلتزم بمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتارة أخرى تتهمها بالتعدي على الحدود اليونانية والقبرصية طمعاً بالغاز، وطوراً تتهم أنقرة بالتدخل في شؤون دول الجوار.. وكل هذا يشي بأنّ الأوروبيين ما زالوا غير مرحبين بتركيا شريكاً ضمن اتحادهم، برغم التنازلات التي قدّمتها أنقرة.
الاقتصاد رافعة الأوروبيين
اليوم، يتلطى الاتحاد الأوروبي خلف الملفات الاقتصادية للسير بالمخطط نفسه، باعتبار أنّ الاقتصاد هو "الرافعة" الوحيدة المتبقية أمام المفوضية الأوروبية من أجل الضغط على أنقرة، ورفض انضمامها للاتحاد المُنهك.
قضية تحديث الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي هي الخلاف المستجدّ، إذ تعتبر بعثة تركيا إلى المديرية العامة لسياسة الجوار الأوروبية ومفاوضات التوسع التابعة للمفوضية الأوروبية، أنّ عملية التفاوض قد وصلت فعلاً إلى طريق مسدود.
و"الاتحاد الجمركي" اتفاقية تتيح تداول سلع الدول الأطراف بحرية داخل منطقة جمركية واحدة خالية من جميع أنواع التعريفات الجمركية والضرائب المعادلة، ويطبق الطرفان نفس معدلات التعرفة الجمركية ونفس السياسات التجارية للواردات من البلدان المشاركة في الاتفاقية.
المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي مستمرة منذ أعوام، بموجبها ألغيت الرسوم الجمركية في تجارة السلع الصناعية، وأُلغي تقييد كميات البضائع، وبدأ تطبيق تعرفة جمركية مشتركة. كان مقرراً أن تطبّق الاتفاقية قبيل انضمام تركيا الكامل إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أنّ تطبيقها استمر لفترة أطول مما كان متوقعا (منذ أكثر من 26 عاماً).. وهذا دليل على أنّ دول الاتحاد الأوروبي تستمر بالتسويف والمماطلة.
تركيا تعتبر أن المسألة الجمركية باتت بحاجة إلى تحديث، خصوصاً أنّ بنودها ما عادت تحاكي تطوّرات العصر. في نظرها، فإنّ التحديثات ستكون قادرة على تقليص العجز في الميزان التجاري بينها وبين الاتحاد، وستفتح نافذة أمام الشركات والمصانع التركية العاملة بالتصنيع والتصدير لدفع الاقتصاد التركي قدماً، لكن يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي يمارس ضغوطاً إضافية ضد أنقرة على خلفية مواقفها من الحرب في أوكرانيا أولاً، وثانياً لاستمرار التسويف في موضوع عضوية تركيا في الاتحاد نفسه.
يضاف إلى ذلك "آلية الحد من انبعاثات الكربون"، التي توصلت إليها دول الاتحاد نهاية العام الماضي، حيث تعتزم السير بها وتحويلها إلى قانون يقضي بفرض "ضريبة كربونية" (Carbon tax) على جميع واردات الاتحاد الأوروبي من السلع التي يصنفها على أنها ملوِّثة، مثل الحديد والصلب والأسمنت والأسمدة والألمنيوم والكهرباء.
بذلك، سيُطلب من الشركات التي تستورد هذه السلع إلى الدول الأعضاء في الاتحاد، شراء شهادات لتغطية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، التي تنفثها هذه السلع. وسيُطبق القانون أيضاً على الشركات الخارجية والصناعات المحلية في الاتحاد الأوروبي. وطبعاً من بين تلك السلع ما تصدّره تركيا إلى أوروبا التي باتت تعتمد ازدواجية في معاييرها، خصوصاً مع تخليها عن سياسات الانبعاثات الكربونية نتيجة شحّ الغاز ولجوئها إلى استخدام الفحم الحجري مؤخراً بعد تداعيات الأزمة الأوكرانية.
عملياً، الدول الأعضاء في الاتحاد لا تملك موقفاً موحداً فيما يتعلق بالعلاقات الجمركية مع أنقرة. معظم هذه الدول تعتبر أنّ احتمال اندماج تركيا ضمن الاتحاد الأوروبي بات أمرا "غير واقعيّ" على الإطلاق، ظناً منهم أنّ تركيا قد فقدت الاهتمام والحماسة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنّ الحقيقة بخلاف ذلك.
أشدّ الدول الرافضة لأنقرة في الاتحاد هي فرنسا والنمسا وهولندا وألمانيا، وتقول بالتواتر وبخجل إنّ السبب هو الكثافة السكانية لتركيا، قاصدين بذلك الهوية الإسلامية التي قد تهدّد الكيان المسيحي للقارة بهويتها.. وفي هذا الإطار تُساق تلك الحجج السياسية والحقوقية وحديثاً تلك الاقتصادية. وفي المقابل تُقدّم عروضاً لتركيا بين الحين والآخر، لتكون شريكاً مميزاً عوضاً عن عضويتها الكاملة.
قادة أوروبيون لم يستحوا وأعلنوا صراحة عن السبب يوم قالوا إنّ تركيا "المسلمة" مكانها الحقيقي بين دول العالم العربي والإسلامي، وليس بين دول الاتحاد الأوروبي، وإنّ انضمام تركيا إلى الاتحاد "أمر خطير يجب تفاديه"، إذ لا يمكن الموافقة على إدخال 85 مليون "قنبلة موقوتة" إلى الاتحاد الأوروبي!
أمّا السؤال الأهمّ، فيبقى عند تركيا نفسه: ما حاجتها إلى العضوية في الاتحاد الأوروبي اليوم؟ وهل تلبي عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي تطلعات تركيا الاقتصادية أو حتى السياسية بعد اليوم؟
فالاتحاد بات كياناً مهزوزاً ومجهول المصير بعد النتائج التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا، كما أنّ الفرص التي وفّرتها الظروف الدولية أمام تركيا نتيجة الانقسام الدولي على خلفية هذه الحرب، باتت أهمّ وأعظم، خصوصاً الشراكة بين تركيا من جهة وبين الدول المشرقية مثل روسيا والصين وبقية الدول الآسيوية التي تشهد ازدهاراً في علاقاتها مع أنقرة، من جهة أخرى.
الاتفاق التركي- الروسي الذي يتحدث عنه الزعيمان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين منذ أشهر، باستمرار، قادر على جعل تركيا "منصة" لنقل الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية، وقادر على خلق الكثير من الفرص التي عجزت تركيا عن تحقيقها مع أوروبا واتحادها على مدى سنوات. هذا الاتفاق قد يقلب الآية، وقد يدفع الدول الأوروبية المتعطشة للطاقة إلى التهافت من جديد صوب تركيا، بغية مدّ جسور التواصل والتعاون مع تركيا اقتصادياً وسياسياً، وليس العكس.. فما حاجة تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بعد اليوم؟