عماد الشدياق نقلاً عن "عربي 21"
"تركيا لم تُغلق أبواب التواصل مع سوريا من أجل التطبيع".. هذا التصريح هو خلاصة ما حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إيصاله للخصوم الأصدقاء قبل أسابيع، ومفاده أنّ أردوغان ما زال على استعداد للاجتماع بالرئيس السوري بشار الأسد، برغم رهان الأسد على فوز المعارضة التركية في الانتخابات التركية الأخيرة.
أردوغان الذي بدّل نبرة خطابه إيجاباً تجاه سوريا قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عاد وإلتزم سياسة الهدوء بعد فوزه بالولاية الجديدة، لكنّه لم يقفل الباب نهائياً أمام هذا الخيار. ربّما ارتأى أردوغان أنّ المرحلة اليوم تستدعي تصحيح العلاقة مع الغرب أولاً، ولهذا أعاد وصل ما انقطع مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) من خلال الموافقة على ضمّ السويد إلى الحلف الذي ترعاه الولايات المتحدة، كما أظهر المزيد من الانفتاح على أوكرانيا، فاستقبل رئيسها فلوديمير زيلينسكي، وسمح بمغادرة عدد من قادة تنظيم "آزوف".
هواجس أردوغان في هذه المرحلة تنطلق من الاقتصاد، فالرئيس التركي يعرف تماماً أن الوضع الاقتصادي في بلاده يمرّ بمرحلة حرجة، ولهذا يحاول سدّ جميع الثغرات التي تعيق عودة النمو إلى الاقتصاد التركي وانتعاش الليرة التركية مجدداً. لكن برغم ذلك، يعرف الرئيس التركي أنّ الانفتاح على سوريا ونظام الأسد هو أمر مفيد للاقتصاد أيضاً، كما أنّه أمر لا مفرّ منه في المرحلة المقبلة من أجل دفع الوضع السياسي والاقتصادي التركي قُدماً.
انفتاح أنقرة على دمشق والمصالحة معها، سيسهّل وضع حلول لملف اللاجئين السوريين. هذا الملف لطالما تسبّب بالأرق للأتراك ولأردوغان شخصيا، والانفتاح على سوريا والتطبيع مع نظام الأسد، سيضع خارطة طريق واضحة لمستقبل وجود نحو 3.6 مليون لاجئ سوري داخل الأراضي التركيةالتقارب مع نظام الأسد، يضمن لأنقرة حصولها على مكاسب استراتيجية عدّة قد لا تُعوّض فيما لو اختارت أنقرة التعنّت ورفض التطبيع، هذه المكاسب هي على الشكل التالي:
1. انفتاح أنقرة على دمشق والمصالحة معها، سيسهّل وضع حلول لملف اللاجئين السوريين. هذا الملف لطالما تسبّب بالأرق للأتراك ولأردوغان شخصيا، والانفتاح على سوريا والتطبيع مع نظام الأسد، سيضع خارطة طريق واضحة لمستقبل وجود نحو 3.6 مليون لاجئ سوري داخل الأراضي التركية.
2. حلّ ملف اللاجئين يساعد بدوره ولو بشكل متواضع، في إبطاء التدهور الاقتصاد في تركيا، لأنّه سيخفّف مع الوقت الضغط على المجتمع التركي. وكذلك سيحدّ من الضغوط على البنى التحتية التركية، كما يضبط فواتير استهلاك الوقود والغاز الذي تستورده تركيا من الخارج. وبالتالي فإنّ عودة ثلاث ملايين لاجئ تباعاً تعني استيراد غاز أقل وكذلك استهلاك محروقات أقل ضمن فاتورة تدفعها تركيا بالعملة الصعبة، هي الأثقل عبئاً على الحكومة التركية (تقدر بنحو 45 مليار دولار)، أي فاتورة أقل بنحو ملياري دولار سنوياً.
3. عودة اللاجئين إلى سوريا ستزيد من مصداقية أردوغان أمام ناخبيه بعد الانتخابات، وتؤكد أنّ ما قطعه من وعود قبل الانتخابات الرئاسية والنيابية، يقوم بتنفيذه بالفعل بعد فوزه. الوفاء بالوعود سيثبّت أرضية "حزب العدالة والتنمية" في تركيا، ويؤسس إلى مرحلة واضحة المعالم في العلاقة بين المواطنين الأتراك وبين الحزب وأعضائه، وذلك بوجود أردوغان في السياسة أو حتى بعد انسحابه من العمل في الشأن العام.
4. إقفال ملف اللاجئين سيسمح لأنقرة بالتفرغ لملف التنظيمات الكردية التي تعتبرها "خطراً داهماً" على البلاد وحدودها، فمع إقفال ملف اللاجئين سيتمكن أردوغان وحزبه التركيز على "المعضلة الكردية"، كما أنّ هذا الانفتاح سيقطع الطريق أمام المعارضين الذين يبدون انفتاحاً على سوريا ونظامها أيضاً.
5. إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وبدعم من موسكو خصوصاً، سيعزّز أكثر من مكانة أردوغان بين دول العالم. فقد حاول أردوغان أن يرسم لنفسه صورة (ونجح في ذلك إلى حدّ بعيد جداً) الزعيم الوسطي والمستقل، زعيم لا يتبع لأيّ محور ولا ينفّذ تعليمات غربية، بل ينطلق من مصالح تركيا العليا من أجل رسم سياسته الخارجية.
وعليه، فإنّ التطبيع مع سوريا يؤكد أنّ أردوغان لم يذعن لضغوط الإدارة الأمريكية التي أبدت امتعاضها من كل الدول التي حاولت الانفتاح على سوريا مؤخراً وخصوصاً الدول الخليجية وجامعة الدول العربية.
الأسد يريد انسحاب تركيا من أراضيه
المعضلة التي تقف عائقاً اليوم أمام دفع المفاوضات قدماً بين تركيا وسوريا وإنهاء القطيعة بينهما منذ العام 2021، هي اشتراط الأسد انسحاب القوات التركية من أراضي سوريا. هذا الشرط تعتبره أنقرة تعجيزيا في ظل الوضع الميداني في الشمال السوري، فتركيا تعتبر انسحاب قواتها من الأراضي السورية في هذا التوقيت هو أمر "شبه مستحيل".
مصادر دبلوماسية تركية تؤكد أنّ وجود الجيش التركي على الأراضي السورية ليس من باب الترف، ولا حتى من باب الطمع بالأراضي السورية، أنقرة لا تهوى إرسال قواتها خارج الحدود، كما أنّ نشر القوات التركية في سوريا أمر مكلف، لكن لا مفر من ذلك من أجل حماية الأراضي التركية، بحسب ما تؤكد المصادر.
وبالتالي فإنّ شرط الانسحاب مسبقاً من أجل إجراء المحادثات مع سوريا لإجراء محادثات تعتبره القيادة التركية "أمر غير مقبول"، لأن محاربة الإرهاب في نظر القيادة التركية هو أولوية، ومن أجل ذلك تنتظر من سوريا "نهجاً عادلاً" في مقاربة هذا الملف.
روسيا هي الضمانة
أمام هذا الانسداد، قد يسأل سائل: ما هو الحل اليوم؟ مما لا شك فيه أنّ هذه المعضلة غير قابلة للحلّ إلّا من خلال الوسيط الروسي الذي يرعى هذا التقارب بين دمشق وأنقرة بشكل مكثّف منذ أواخر العام الماضي. فقد راهنت موسكو على تقارب الطرفين قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، إلاّ أنّ الأسد فضّل التريّث بعقد لقاء مع أردوغان.
ربّما راهن الأسد على فوز المعارضة وتغيّر المشهد السياسي في تركيا بعد الانتخابات، لكنّ ذلك لم يحصل، فعاد أردوغان أقوى من قبل وهو ما دفع أنقرة إلى رفض الشروط السورية مقابل التطبيع من دون أن تقفل الباب نهائياً.
أمّا اليوم، فإنّ الرهان معقودٌ على موسكو وعلى قدرتها على جمع الطرفين مجدداً، باعتبارها "المنصة الوحيدة" الجاهزة لرعاية عملية التفاوض. كما أنّ موسكو هي الجهة القادرة على دفع الأسد مجدداً نحو الموافقة على عقد القمة مع أردوغان حتى لو استغرق ذلك بعض الوقت، ومن دون سحب القوات التركية من سوريا اليوم.
تستطيع موسكو أن تكون الجهة الضامنة لعدم تمدّد الوجود التركي في الأراضي السورية، أو الجهة الراعية لإعادة انتشار الجيش التركي مع قبول الأسد باطلاق خطوات الحلّ السياسي، حتى لا تجد أنقرة نفسها أمام أزمة لجوء جديدة، في حال وافقت على سحب قواتها من الشمال السوري بلا تلك الضمانات.
قد تكون هذه المقترحات بمنزلة بدايات للحلّ، خصوصا أنّ الأوساط الروسية تؤكد وتكرر بأنّ لا مبالغة في القول إن التطبيع بين سوريا وتركيا سيكون هو المدخل الرئيسي من أجل حلّ الأزمة السورية برمتها.
لكن في المحصلة، تقر الأطراف الثلاثة بأنّ الأمر ما زال بحاجة إلى عملية "بناء ثقة" من جديد، وهذا قد يستغرق بعض الوقت، لكنّ التطبيق واقع واقع لا محال.. وإنّها مسألة وقت.