عماد الشدياق نقلا عن "إيلاف"
قبل نحو شهر، كانت التحضيرات للقاء مرتقب بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد، شبهَ مكتملة. لكن فجأة تبدّل كل شي، وعاد الأسد إلى رفع السقف من الخلال مطالبة الجيش التركي بالانسحاب من الأراضي السورية في الشمال، كشرط من أجل التطبيع على الرغم من حاجتها الملحة لهذا التطبيع.
أمّا تركيا التي كانت تعارض التطبيع مع نظام الأسد سابقاً، فأبدت شيئاً من اللين قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية الأخيرة، وذلك من أجل قطع الطريق على المعارضة التركية التي كانت تبدي انفتاحاً على التلاقي مع النظام. لكن برغم انقضاء الانتخابات وفوز أردوغان، لم يتراجع الأخير عمّا وعد بالسير به، واستمر في إظهار هذا اللين إلى اليوم.
تلعب روسيا دور الوسيط الفاعل من أجل تقريب وجهات النظر بين حليفيها (سوريا وتركيا)، اللذين يؤكدان منذ مدّة أنّ التلاقي أمر لا مفرّ منه وأنّ التطبيع حاجة للطرفين، لكن تبقى العبرة في التنفيذ.
اليوم تقبع موسكو في الوسط بين دمشق وأنقرة، فمن جهة تتفهّم الهواجس الأمنية التركية وخطر ما تعتبره أنقرة "الإرهاب الكردي" المقبل من الحدود مع سوريا، ومن جهة أخرى تقدّر المطلب السوري الداعي إلى انسحاب الجيش التركي من أراضيها للحفاظ على سيادتها.
تعتبر موسكو أنّ التطبيع "مكسب استراتيجي" للجميع، ولهذا تدعو الطرفين إلى الانخراط به. فمن خلال التطبيع تستطيع موسكو التعاطي مع الطرفين بسهولة أكبر، وتتقدم خطوة إضافية في طريق إرساء الحلّ السياسي في سوريا.
أمّا النظام السوري، فيمكنه من خلال التطبيع، فكّ عزلته مع أهمّ جارٍ له شمال البلاد، وهذا قد يفتح له آفاقاً جديدة ومفيدة من التعاون، من أجل الحصول على المساعدات وشراء البضائع وإعادة تعويم اقتصاده من خلال تخطّي ما تيسّر من العقوبات الأميركية، خصوصاً بعد تردّد الدول العربية في الاستمرار بالتقرّب من النظام نتيجة الضغوط أميركية التي مورست على دول الخليج وغيرها من دول الشرق الأوسط مثل الأردن ومصر.
من خلال التطبيع أيضاً، تستطيع دمشق قطع الطريق على الدعم الذي تقدمه تركيا إلى المعارضين السوريين الذين تعتبرهم "إرهابيين"، وتتهم أنقرة بحمايتهم ومساعدتهم. فهذا الأمر، يصعب تحقيقه من دون تقديم تطمينات إلى الجانب التركي، وفتح خطوط عميقة مع الرئيس رجب طيب أردوغان، من أجل الإثبات للأتراك بأنّ العلاقة مع "سوريا النظام" أكثر اهمية ومنفعة لتركيا من العلاقة مع معارضيها.... وهذا لا يحصل إلاّ من خلال تطبيع.
ومن خلال التطبيع، يستطيع النظام السوري كذلك، ترتيب أوراق ملف اللاجئين. أولئك الذين تُصرّ تركيا منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية (حكومة وشعباً وأحزابَ معارضة) على إعادتهم إلى قُراهم ومدنهم بأيّ طريقة، أو بأضعف الإيمان إعادتهم إلى داخل الحدود السوري.
ومن هذا المنطلق، فإنّ للنظام السوري مصلحة في التنسيق مع الدولة التركية بتفاصيل هذه الخطوة، إذ من أفضل لبشار الأسد أن يعود هؤلاء السوريين إلى الداخل السوري، بعلمه ودرايته وبالتنسيق معه، على أن يعودوا بلا موافقته أو غصباً عنه!
أمّا تركيا، فلها اعتبارات أخرى مختلفة من مسالة التطبيع. هواجس أنقرة تنطلق، بعد الأمن، من الاقتصاد. أردوغان يعرف أنّ الوضع الاقتصادي في تركيا متعثّر، ويسعى إلى سدّ الثغرات التي تعيق استعادة النمو وانتعاش الليرة التركية.
الانفتاح على سوريا قد يكون مفيداً للاقتصاد التركي، لأنّه سيسهّل عودة نحو 3.8 مليون لاجئ سوري تسبّبوا بأزمة ديمغرافية واقتصادية كبيرة في الداخل التركي. عودتهم ستدفع نحو إبطاء التدهور الاقتصادي في تركيا، وستخفّف الضغوط على البنى التحتية التركية، وعلى فواتير استهلاك الطاقة والوقود التي تستوردها تركيا من الخارج، وتتكبد ما يقترب من 2 مليار دولار سنوياً من أجل ذلك (الفاتورة كاملة 45 مليار).
عودة اللاجئين إلى سوريا ستؤكد أن "حزب العدالة والتنمية" ذات مصداقية، ويلتزم بالوعود التي يقطعها على ناخبيه. وهذا قد يساعده على تخطي ضغوط المعارضة التي تلاحق الحزب بتحركاته السياسية وبخطواته وبأدق التفاصيل. بذلك يستطيع أردوغان أن يؤسس إلى مرحلة واضحة المعالم في العلاقة مع الأتراك ويرسم مستقبلاً واعداً للحزب بعد نهاية ولايته الاخيرة (ربّما) في الرئاسة التركية.
أضف إلى ذلك أنّ إقفال ملف اللاجئين السوريين، سيسمح لأردوغان بالتفرغ لملف التنظيمات الكردية التي يعتبرها "خطراً داهماً" على حدود البلاد. ناهيك عن المكاسب التي سيحصل عليها نتيجة تعزيز علاقته أكثر مع موسكو التي تراهن على هذا التقارب... فهذا التطبيع قد يظهر أنّ أردوغان زعيم "وسطي" بالفعل. زعيم مستقلّ له أجندة دولية خاصة لا تتبع لأيّ محور غربي أو شرقي. أجندة تسمح لتركيا بأنّ ترسم بنفسها سياستها الخارجية الخاصة.
لكن برغم هذا كلّه، فإن النظام السوري يتحدث لغتيه. فبينما يعتبر رئيس النظام بشار الأسد أن لقاء أردوغان غير ذات قيمة ويسأل: "لماذا ألتقيه؟ لشرب المرطبات؟" يقول وزير خارجيته فيصل المقداد في الوقت نفسه ومن طهران إنّ "قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي قوات "انفصالية ومجرمة"، ولا تريد الخير لسوريا. ويضيف "نريد لأيّ قوة أجنبية غير مشروعة أن ترحل عن أرضنا، كي تكون هناك علاقات طيبة بين الشعبين السوري والتركي".
وهذا يظهر أنّ سوريا تتحدث لغتين: لغة تدعو إلى التلاقي مع أنقرة ولغة أخرى ترفض التطبيع... فأي لغة يصدّق العالم؟ فهذا مرتبط بما ستظهره الأيام المقبلة.