نبيل الجبيلي نقلاً عن "عربي 21"
انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أسابيع، يُظهر 3 مقاتلين يحملون الأسلحة ويضعون الأقنعة كتلك التي يضعها المقاومون في قطاع غزة، ويحذرون "إخوانهم" المسلمين حول العالم من مغبّة القتال في أوكرانيا، ويذكرونهم في الوقت نفسه، بأنّ الجهاد الحقيقي هو في فلسطين بمواجهة إسرائيل وليس في أوكرانيا.
المتحدث في مقطع الفيديو، ناشد "كل مسلم يقول لا إله إلّا الله في منطقة الشام المقدسة، وكل مسلم هاجر إلى أوكرانيا أو إلى أيّ دولة أوروبية، أن يراجع نفسه"، معتبرا أنّ "أوكرانيا حلّلت ذبح الأطفال والنساء والشيوخ في فلسطين بدعمها لإسرائيل".
ولم تُعرف هوية الأشخاص الثلاثة، ولا الجهات التي تقف خلفه، لكنّه أثار ضجة بين روّاد التواصل الاجتماعي، وتداولته العديد من الصفحات والمواقع العربية والأجنبية، فطرح تساؤلات عن حقيقة وجود مسلمين بالفعل في أوكرانيا، يقاتلون إلى جانب الجيش الأوكراني وقوات حلف الشمال الأطلسي (الناتو). فهل هم هناك فعلا اليوم؟ ولأيّ دوافع موجودون هناك؟ هل هي دوافع سياسية أو هم موجودون بدفع وتحفيز وتشجيع من الأنظمة؟ هل الأمر على علاقة بأفكار أيديولوجية؟ بل ما الرابط بين الدين الإسلامي والجهاد بالصراع الدائر في أوكرانيا اليوم؟
كل هذه الأسئلة المشروعة قد تصعب الإجابة عليها. لكنْ، ثمّة حدثٌ آخرُ وقع في إسرائيل وقطاع غزة، ربّما يسهم في إيضاح الصورة ويقدّم بعض الإجابات.
هذا الحدث ظهر بدوره على صفحات التواصل الاجتماعي نفسها قبل أسابيع، وأثار الضجة هو الآخر بين روّاد التواصل الاجتماعي العرب حول الحرب الدائرة في قطاع غزة اليوم.
فقد قامت صفحة متخصصة بتحليل المحتوى على موقع "إكس" (تويتر سابقا) تسمى "إيكاد"، تعتمد المصادر المفتوحة وأحدث البرمجيات للتقصي والبحث، بالكشف عن شركة أمريكية تقوم بتجنيد المرتزقة، من أجل القتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي في غزة.
الصفحة كشفت أنّ بعض أفراد تلك المنظمة والمتعاونين معها "يحملون عقيدة نازية"، في وقت تتهم إسرائيل مقاتلي حركة "حماس" بأنّهم نازيون، وهو ما أثار دهشة الرأي العام حول العالم.
وغالبا ما يصف المسؤولون الإسرائيليون مقاتلي "حماس" بـ"النازيين"، وهي محاولة لشيطنتهم وكسب تأييد عالمي، على اعتبار أنّ النازيين ارتكبوا جرائم بحق اليهود، إلا أنّ الحقائق تظهر العكس: إسرائيل تتعاقد مع شركات مرتزقة مرتبطة مباشرة بحركة "النازيين الجُدد"، الذين يؤمنون بأفكار الزعيم النازي أدولف هتلر!
الكشف عن الشركة بدأ بصورة اكتشفتها الصفحة "إيكاد"، أظهرت هوية مرتزقة أوكرانيين يقاتلون مع الجيش الاسرائيلي في غزة، يتبعون شركة "Forward Observations Group" الأمريكية المختصة بتدريب وتأجير المرتزقة حول العالم، والمعروفة اختصارا أيضا باسم "FOG".
تحليل الحساب الرسمي للشركة على "إنستغرام"، أظهر لـ"إيكاد" صور مقاتلين داخل قطاع غزة وغلافه، وكذلك في المستوطنات المحيطة بالقطاع.. ثم بدأت الأدلة بالظهور تباعا:
- في 27 تشرين الأول/ أكتوبر، نشر حساب شركة "FOG" صورة لحواجز عسكرية ودبابات وآليات إسرائيلية، وأوضح كذلك عبر خاصية تحديد المواقع أنّها في "حدود غزة"، دون أن يكون هناك تحديد دقيق للمكان. تحليل الصور بما تظهره نوعية الأرض والتربة وبرج الاتصالات المعدني، والكتل الخرسانية المحيطة، والسياج الشبكي الظاهر، رجّح لـ"إيكاد" أن تكون الصورة مُلتقطة قرب معسكر "معبر إيرز" شمال شرق غزة.
- في 1 تشرين الأول/ نوفمبر، نشر حساب "FOG" صورة أخرى لمقاتلين يرتدون ملابس عسكرية خاصة مختلفة عن زي الجيش الإسرائيلي المعروف، وخلفهم إحدى المنشآت المتضررة. وأوضح المنشور أن الصورة مُلتقطة في مستوطنة "بئيري" الواقعة شرقي غلاف غزة. حلّل الموقع تلك الصورة، وتبيّن أنّ المقاتلين يحملون بنادق أمريكية من طراز "M4"، وقنابل يدوية إسرائيلية من طراز "M26A2"، وأحد المقاتلين كان يضع شارة العلم الأمريكي، في إشارة إلى جنسيته.
- إحدى الصور نشرها الحساب في 26 تشرين الأول/ نوفمبر 2023 لأحد مقاتلي الشركة بعتاده الكامل، توضّح أيضا أنّ الصورة مُلتقطة داخل قطاع غزة. عند الضغط على تلك الصورة، كانت تكشف عن حساب "إنستغرام" خاص بالشخص الظاهر فيها (وهي خاصية أدرجها حساب "FOG" ضمن إعدادات المنشور لإظهار اسم الشخص)، لكن الحساب مُغلق للعامة. بتحليل المعالم الجغرافية للصورة، مثل شكل المنازل على جانبي الطريق، وارتفاعها المتساوي نسبيا، وكثافة الأبنية المدمرة، إضافة إلى الطبيعة الحضرية، رُجّح أنها مُلتقطة في منطقة بيت حانون في غزة، وهو ما يعني أنّ عناصر "FOG" انخرطوا في القتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة، وليس في المستوطنات فحسب.
تقول صفحة "إيكاد"؛ إنّها تابعت حساب الشركة على "إنستغرام" بشكل مستفيض، فاكتشفت تفاعلات متكررة من مجموعة أشخاص محدّدين، تشير حساباتهم الشخصية إلى أنّهم أعضاء في "FOG" أو متعاونين معها أو مع شركات مرتبطة بها، وبعض تلك الحسابات نشرت صورا متطرفة ومنشورات للنازيين.
زيارة الموقع الإلكتروني الرسمي للشركة، يظهر أنه أُنشئ في العام 2018، ولا يتضمن معلومات عن طبيعة عملها أو أهدافها، ما يعني أنّ الشركة تعمّدت إخفاء أيّ معلومات أو تفاصيل عن مالكيها أو موقعها أو أنشطتها الحقيقية.
يدير شركة "FOG" شخص يُدعى ديريك باليز (Derrick Bales)، وهو جندي أمريكي مظلّي متقاعد من مدينة لاس فيغاس، خدم في أفغانستان، وأصوله تعود إلى أفريقيا. صورة أخرى نشرتها "FOG" خلال شهر نيسان/ أبريل 2023 لمقاتليها، ذكرت أنهم في أوكرانيا، يظهر بها حساب المدعو ديريك وحسابات مقاتلين آخرين.
أحد المقاتلين الذين كانوا برفقة ديريك يُدعى فاديم لابيف (Vadim Lapaev)، بدا مرتديا فيها ملابس الشركة، وتُبين أنّه أحد قادة كتيبة "آزوف" (Azof) التي تشكلت في أوكرانيا عام 2014 للقتال ضد الجيش الروسي في دونباس، وهي كتيبة نازية يمينية متطرفة، متهمة بارتكاب جرائم إبادة عرقية في أوكرانيا، وكذلك مرتبطة بهجمات إرهابية وأعمال عنف، في دول مثل بلغاريا والمجر وصربيا وهونغ كونغ.
حساب المدعو فاديم على "فيسبوك" و"إنستغرام"، يظهر وجود عناصر ورموز ترتبط بالأيديولوجيات النازية المتطرفة، وصورا يبدو فيها وهو يؤدي التحية النازية، ويحمل لافتة الصليب المعقوف ويرتدي بها قلادة تحمل الشعار ذاته، وموشوم على صدره شعار "Othal Rune" المرتبط بـ"أيديولوجيا تفوق العرق الأبيض"، الذي اتخذه النازيون الألمان شعارا لهم في القرن الماضي.
منشور آخر لفاديم يؤكد وجوده في بغداد، وقد قام بترميز حساب شركة "FOG" التي تنشر صورا بدورها على موقعها لعناصرها في العراق، ومعهم شخص يبدو أنّه أسير.
وبما أنّ "FOG" شركة أمريكية، فقد سألت الصفحة الاستقصائية عن مدى قانونيتها، خصوصا أنّها توظف أعضاء يعتنقون أيديولوجيا متطرفة محظورة في الولايات المتحدة.
الشركة مُسجلة شركة أجنبية محدودة في ولاية نيفادا منذ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 تحت اسم "Forward Observations Group, LLC"، وقواعد البيانات الخاصة في ولاية نيفادا تُظهر أنّ الشركة لا زالت فاعلة إلى اليوم. فهل تسمح القوانين الأمريكية بإنشاء شركة مرتزقة؟
شركات تأجير المرتزقة تعمل في أمريكا تحت وصف "المقاولين العسكريين"؛ حيث تتعاقد وزارة الدفاع مع مقاولين سنويا، وكل الخدمات التي تقدمها شركات "المقاولين العسكريين" تتطلب موافقة من الجهات المعنية في الولايات المتحدة، ما يعني أنّ واشنطن على علم بمشاركة "FOG" في غزة، بحسب ما تستنتج الصفحة، والأكثر من ذلك، أنّ بعض أعضائها يؤمنون بعقائد نازية.
اللافت في الأمر أيضا، أنّ عناصر هذه المجموعة وجودوا في كل مناطق الصراعات التي لأمريكا صلة فيها، مثل العراق وأوكرانيا وغزة، ثم بعد ذلك يُتهم الفلسطينيون بالنازية والإرهاب!