سامر زريق نقلاً عن "أساس ميديا"
في أوّل حوار له عبر الإعلام الغربي منذ بدء الحملة على أوكرانيا في شباط 2022، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي الأميركي المعروف تاكر كارلسون، أحدثت ضجّة كبرى على الصعيد العالمي.
المقابلة التي عُرضت على موقع كارلسون، وحسابه على منصّة "إكس" ليل الخميس 8 شباط، وجرى تسجيلها قبل يوم واحد، حصدت رقماً قياسياً تاريخياً على صعيد عدد المشاهدات على منصة "إكس". خلال 24 ساعة تقريباً ناهز عدد مشاهداتها 77 مليون مشاهدة، بالإضافة إلى 720 ألف إعجاب، و51 ألف تعليق، و230 ألف مشاركة.
مع الإشارة إلى أنّ الفيديو "الأكثر مشاهدة" على "إكس" العام الماضي كان للأسطورة الكروية الأرجنتيني ليونيل ميسي بـ19.4 مليون مشاهدة، أي أنّ مقابلة الرئيس الروسي حصلت على مشاهدات تقارب 3 أضعاف الفيديو "الأعلى مشاهدة"، وهذا بحدّ ذاته رقم مذهل يعكس مدى الاهتمام العالمي الذي حظيت به، حتى ضمن عالمنا العربي. كما لفتت وكالة "سبوتنيك" الروسية إلى مدى الانتشار الواسع للمقابلة، الذي يختلف عن عدد المشاهدات، فهو يعني عدد الوكالات والمنصّات الإعلامية والأشخاص الذين شاركوا مقاطع من المقابلة على حساباتهم.
السرديّة التاريخيّة الروسيّة
وكان لافتاً أنّ إيلون ماسك نفسه، مالك منصة "إكس"، شارك على حسابه الشخصي فيديو من مقابلة الرئيس الروسي، التي بلغت مدّتها ساعتين ونيّفاً، ولا سيما بعد اللفتة المميّزة التي خصّه بها الأخير، حينما قال إنّه "لا يمكن إيقاف إبداع ماسك، بل ينبغي التفاهم معه". فردّت السلطات الروسية التحيّة بمثلها، حيث أعلنت عن دراسة رفع الحظر عن منصة "إكس" في روسيا، لسماحها بنشر المقابلة، وهذا يؤكّد حياديّتها.
كما أنّ الفيديو الترويجيّ للمقابلة الذي نشره كارلسون يوم الثلاثاء 6 شباط، والذي أعلن فيه عن وصوله إلى العاصمة الروسية موسكو لإجراء المقابلة مع بوتين، حصد أيضاً نسبة مشاهدات هائلة بلغت 109 ملايين مشاهدة على "إكس". واعتبر فيه كارلسون أنّه "بعد مرور عامين من الحرب الروسية – الأوكرانية، التي تعيد تشكيل العالم بأسره، فإنّ معظم الأميركيين ليسوا على علم بما يجري في هذه المنطقة، ولذا يجب أن يعرفوا لأنّهم يدفعون جزءاً كبيراً من الثمن". وهاجم الإعلام الغربي "الذي لم يبذل أيّ جهد لسماع رؤية بوتين".
بيد أنّ التفاعل الكبير مع هذا المقطع الترويجي ترك أصداء سيّئة لدى الإدارة الأميركية، وأغضب البيت الأبيض، حيث اعتبر منسّق السياسات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي جون كيربي، في حديث أمام الصحافيين، أنّ "هذه المقابلة لم تكن ضرورية". وبدأ بالتصويب عليها قبل عرضها بهدف حماية السردية الرسمية التي تروّجها إدارته بالقول: "يجب على الأميركيين أن لا يصدّقوا بوتين". كما أنّ الاتحاد الأوروبي لوّح بفرض عقوبات على كارلسون.
بالفعل كان كيربي محقّاً في مخاوفه. فقد بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحوار بتقديم سردية تاريخية متينة عن "القضية الأوكرانية" دامت لنحو 30 دقيقة، بيّن فيها أنّ أوكرانيا لم يكن لها وجود قبل عام 1922، وأنّها كيان اصطنعه الزعيم السوفيتي ستالين، ومنحه أراضي روسية على البحر الأسود. وأوضح أنّ مصطلح "الأوكران" في اللغة الروسية يعني "الناس الذين يعيشون على الأطراف". وهذه السردية بالذات سعت الإدارة الأميركية مع حلفائها الأوروبيين إلى حجبها تماماً وطمسها لإظهار روسيا بمظهر الدولة المعتدية، ورسم صورة وحشية عن بوتين في الأذهان.
كشف حقائق تقوّض سرديّة الغرب
خلال اللقاء الذي بدا فيه الرئيس الروسي مرتاحاً، ويتمتّع بقدر وافر من الأريحيّة والثقة بالنفس، أماط اللثام عن وقائع كانت مجهولة تماماً، مثل أنّ أميركا تعهّدت لروسيا بعدم توسّع حلف الناتو، وأنّ الأخيرة اقترحت على أميركا الانضمام إلى الحلف عقب الانهيار السوفيتي "إلا أنّهم رفضوا، لأنّهم يخشون روسيا كدولة كبيرة وقويّة".
وأعاد بوتين تذكير المتابعين بأنّ الغرب رفض نتائج الانتخابات في أوكرانيا حينما فاز رئيس وزرائها فيكتور يانوكوفيتش المقرّب من موسكو، بانتخابات الرئاسة عام 2004، على الرغم من أنّ ألمانيا وفرنسا وبولندا كانت ضامنة للاتفاق بين الأخير والمعارضة. الجدير بالذكر أنّه في ذلك الوقت اتّهم الغرب يانوكوفيتش بتزوير النتائج، واندلعت احتجاجات شعبية عُرفت بـ"الثورة البرتقالية" أطاحت بالأخير لمصلحة المعارضة الموالية للغرب.
اعتبر الرئيس الروسي أنّ بلاده كانت على الدوام جادّة في مساعيها لإيقاف الحرب وترسيخ السلام. واتّهم رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون بعرقلة محادثات السلام في مدينة إسطنبول التركية، بعدما قام رئيس الوفد الأوكراني بالتوقيع فعلاً على بعض مستندات السلام، و"الشيطان وحده يعلم بماذا أقنع جونسون (الرئيس الأوكراني) زيلينسكي للانسحاب من المفاوضات، لقد فوّتنا الفرصة". الأمر الذي أثار غضب الصحف البريطانية، ودفع جونسون إلى مهاجمة تاكر ووصفه بـ"الخائن".
كلّ ذلك يقوّض السردية التي سوّقتها أميركا والغرب عبر وسائل الإعلام، أو على الأقلّ يطرح العديد من علامات الاستفهام ويزرع الشكوك فيها. ولم يفُت كارلسون سؤال بوتين: لماذا لا تقدّم موسكو روايتها؟ فكان ردّه بأنّ من الصعب جدّاً هزيمة أميركا في الحرب الدعائية، لأنّها تسيطر على جميع وسائل الإعلام العالمية والأوروبية. وأتى ذلك ضمن الجانب الاقتصادي في الحوار، حيث أشار بوتين إلى أنّ بلاده أصبحت الاقتصاد الأوّل في أوروبا عام 2023 على الرغم من العقوبات، وأنّه مستعدّ لتزويد أوروبا بالغاز عبر أنبوب "السيل الشمالي 2"، "لكنّ ألمانيا لا تريد"، واتّهم أميركا بتفجير أنبوب "السيل الشمالي 1"، فهي وحدها من بين العديد من المستفيدين لديها الإمكانيات لتنفيذ هذا العمل.
وبيّن بوتين أنّ حصّة الدولار من التجارة الخارجية لروسيا انخفضت من 51% إلى 13%، مقابل ارتفاع حصّة اليوان الصيني إلى 34%. وخلص إلى أنّ النظام العالمي يحتاج إلى تعديلات، بعدما تغيّر ميزان القوى في العالم.
الحرب الدعائيّة.. بوسائل أميركيّة
يعكس نجاح المقابلة في إثارة غضب النخب والإعلام في أميركا، مدى نجاح بوتين في اختراق الوعي الأميركي من خلال هذه المقابلة، وبوسائل أميركية، عبر منصة "إكس"، أو منصّات أخرى أميركية أيضاً، كما عبّر إعلامي أميركي شهير يعدّ من المقرّبين من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وهذا في حدّ ذاته يستبطن إشارة دعم من بوتين لصديقه ترامب، كما قال في المقابلة، في توقيت حسّاس جداً على تخوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، حتى إنّ عدداً من الصحف والمواقع الأميركية البارزة عدّت المقابلة انتصاراً دعائياً هائلاً للرئيس الروسي.