نبيل الجبيلي نقلاً عن "عربي 21"
على الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط روسيا بتركيا، إلاّ أنّ الأمر لا يخلو بين الحين والآخر من مناكفات حول بعض التفاصيل، وخصوصا حينما تكون تلك التفاصيل على علاقة مباشرة بالشأن الثقافي والهوية الوطنية.
لم يعد "المشروع التركي" خفيا على أحد: أنقرة تريد أن تكون "قلب" العالم التركي، وذلك من خلال لعب دور الوصيّ على جيرانها، وتحديدا على الشعوب الناطقة باللغة التركية، وذلك من أجل خلق "هوية خاصة" تميزها عن بقية الدول الكبرى المحيطة بها، مثل روسيا أو إيران.
الاستراتيجية التي تنتهجها أنقرة من أجل بلوغ هذا الهدف، تخلق حساسيات مع هؤلاء الجيران، بينما آخر تلك الحساسيات كانت مشروعا للمنظمة الدولية للثقافة التركية المسماة "تورك سوي" (Turksoy)، التي تأسست في العام 1993 بعد توقيع اتفاقية تأسيسها من قبل وزراء الثقافة في كل من أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان وتركيا. ثم انضمت إليها في وقت لاحق، جمهورية شمال قبرص التركية وجمهوريات الاتحاد الروسي المتمتعة بالحكم الذاتي، مثل تتارستان وباشكورتوستان وألتاي وساخا وتيفا وخاكاسيا، بالإضافة إلى إقليم غاغاوزيا (في مولدوفا) ذي الحكم الذاتي، كأعضاء يتمتعون بصفة "مراقب".
وتعمل المنظمة الدولية للثقافة التركية منذ أكثر من 25 عاما تحت رعاية رؤساء الدول الأعضاء، كما تقوم بأنشطة تقول إنّها لـ"تعزيز روابط الأخوة والتضامن" بين الشعوب التركية، ونقل الثقافة التركية المشتركة إلى الأجيال القادمة بغية تقديمها إلى العالم أجمع.
اليوم، تدير تلك المنظمة مشروعا بحثيا يقوم على دراسة الجذور التاريخية للغة "التركية المشتركة"، ويهدف هذا المشروع إلى تثبيت مركزية أنقرة ضمن "القومية التركية" فيما يسمى "العالم التركي"، أي ضمن مناطق آسيا الوسطى وبعض الأقاليم ومحاولة الدخول من هذا الباب إلى عدد من جمهوريات روسيا الاتحادية.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قرّر المجلس الدائم في "Turksoy" إنشاء موسوعة علمية خاصة بـ"النقوش الصخرية للعالم التركي"، وذلك بمساعدة فريق دولي من الباحثين، من ضمنهم متخصصون روس.
ومن أجل التحايل على القيود الروسية المفروضة على التفاعل مع منظمة "Turksoy" في روسيا، استخدم المنظمون الأتراك تكتيكا مختلفا، يقضي بإشراك العلماء الروس، بشكل غير مباشر، في هذا المشروع، وذلك من خلال مؤسسات علمية وتعليمية من ضمن دول آسيا الوسطى.
وفي شهر آذار/ مارس 2024 الفائت، أبرم ممثلو منظمة تجارية تركية غير حكومية، اتفاقيات مع المؤسسات التعليمية في كازاخستان (معهد مارغولان للآثار) وفي قيرغيزستان (جامعة قيرغيزستان الوطنية التي تحمل اسم بالاساجين، ومعهد التاريخ والآثار والإثنولوجيا الذي يحمل اسم جمغيرشينوف)، من أجل إنشاء هيئة تحرير خاصة بالموسوعة التي يجري إعدادها.
وحاليا، يقوم موظفو "Turksoy" بمن فيهم أمين المنظمات غير الحكومية في منطقة سيبيريا، تيمور دافليتوف، بتبادل المعلومات حول المشروع مع ممثلي المجتمع العلمي في المناطق الروسية بشكل خاص، من دون العودة إلى الجهات الرسمية في روسيا، وهو ما تعتبره موسكو "تخطيا للخطوط الحمر"، وانتهاكا لسيادتها الوطنية، وعملية حضّ للعلماء الروس للتمرّد على قرارات الدولة المركزية.
تكشف موسكو أنّ الاتصالات مع هؤلاء العلماء والباحثين الروس تحصل "بشكل فردي"، أي بواسطة الهاتف والإنترنت، ومن دون العودة إلى الأقنية الدبلوماسية الرسمية أو من خلال إرسال الدعوات الرسمية إلى المنظمات العلمية والتعليمية الروسية، وذلك من أجل دعوة العلماء الروس للانضمام إلى فريق تحرير موسوعة "النقوش الصخرية للعالم التركي"، وذلك بغية إعداد المواد التي تثبّت التشابه في أسلوب المنحوتات الصخرية الموجودة في تركيا وتلك الموجودة في دول آسيا الوسطى وكذلك في روسيا.
من خلال ذلك، تحاول (Turksoy) ومن خلفها أنقرة، الاستفادة من مشاركة العلماء الروس في إعداد هذه الموسوعة، باعتبار أنّ مشاركتهم ستؤمن "غطاء روسيّا معترفا به"، وذلك من أجل ضمان "موضوعية" العمل على تلك الموسوعة، وهذا طبعا من أجل تكوين "رأي عام" داعم بين أوساط المتابعين وفي صفوف المجتمع العملي، يؤكد صحّة الادعاءات التركية، ويثبّت دور أنقرة في مجال "الحفاظ على التراث التاريخي والثقافي التركي".
موسكو تعتبر أنّ هذه الإجراءات تجاوزا للأعراف الدولية، ومحاولة من أجل تهميش دورها ودور دول آسيا الوسطى، وكذلك حقّها في هذا الإرث الثقافي المشترك بموضوع النقوش. كما ترى أنّ لها ولدول آسيا الوسطى الحقّ في البحث عن تلك النقوش بشكل منفرد، باعتبار أنّ تلك النقوش تقع ضمن أراضيها.
ولهذا السبب ترى نفسها مع دول آسيا الوسطى "دولا مضيفة" لهذا الإرث التاريخي والثقافي، بمعزل عن المبادرات التركية.
هذه عيّنة صغيرة من الاختلافات والتباينات الخفيّة بين تركيا وروسيا، صحيح أنّها لا تؤثر على القرارات الاستراتيجية الكبرى بين البلدين، لكنّ المراكمة فيها قد توصل العلاقة بين الدولتين إلى حائط مسدود، خصوصا إن لم يتمّ تداركها في الحال.