سامر زريق نقلاً عن "إيلاف":
ثمة العديد من التقارير الإعلامية، وبعضها في وسائل إعلام أميركية، تتحدث عن شراء واشنطن أسلحة روسية، وبعضها من الحقبة السوفياتية، لإمداد أوكرانيا بها، وذلك عبر مسار معقد، تستخدم فيه قواعدها في بعض بلدان الشرق الأوسط، كمحطة أولى لتجميع هذا السلاح. ثم تقوم بإرساله بواسطة شحنات عبر المتوسط نحو الميدان الأوكراني. المثير أن هذه العمليات المستمرة تحصل من دون علم أو أذن من حكومات الدول التي يوجد فيها قواعد أميركية، حيث تستغل واشنطن نفوذها وسطوتها، والاتفاقيات الثنائية المجحفة، لتنفيذ أجندتها.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما حاجة واشنطن إلى السلاح الروسي والسوفياتي في ظل المساعدات العسكرية والمالية الهائلة التي تمد بها كييف؟
الهوية الروسية المتجذرة
الجواب على هذا السؤال ينقسم إلى شقين: الأول هو أن سلاح الجيش الأوكراني في الأصل روسي الهوية، وكذلك عقيدته العسكرية. ورغم كل المساعي الأميركية والغربية الإعلامية لمحو هذه الهوية المتجذرة، وإظهار أوكرانيا بلبوس غربي، إلا أن الوقائع تدحض ذلك. فالسلاح الأميركي لم يدخل أوكرانيا إلا حديثاً في السنوات الأخيرة.
وهذا ما يقودنا الى الشق الثاني، حيث تواجه القوات المسلحة الأوكرانية العديد من الإشكاليات في استخدام الأسلحة الأميركية والغربية، والتي لا تتواءم مع نموذج التسليح المعتمد تاريخياً، وأساليب ومناهج التدريب المبنية عليه. فضلاً عن عجزها عن تأمين ذخائر وقطع غيار لأسلحتها الروسية، والتي لا تزال تشغل حيزاً كبيراً من ترسانتها العسكرية. علاوة على ذلك، فقد كشف ميدان الحرب عدم فعالية بعض الأسلحة الأميركية في مواجهة نظيرتها الروسية.
وفي هذا الصدد، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية منذ أسبوع تقريباً، استناداً إلى معلومات حصلت عليها من قيادات عسكرية أوكرانية، ووثائق سُرّبت إليها، أنَّ "أوكرانيا تخلت عن استخدام العديد من الأسلحة الأميركية الموجهة عبر الأقمار الصناعية بسبب عدم فعاليتها في مواجهة أنظمة الحرب الروسية الإلكترونية".
إزاء ذلك، ولأنَّ واشنطن تعمل بكافة السبل على إبقاء جذوة الصراع متّقدة بما يخدم أهدافها ومصالحها الخاصة، ولو على حساب معاناة الشعب الأوكراني، والحقائق التاريخية والجيوسياسية، فإنها اتبعت مساراً معقداً لدعم الجيش الأوكراني بالأسلحة الروسية والسوفياتية وقطع الغيار.
تعزيز النفوذ الأميركي
يعكس هذا المسار المتبع مدى خبث واشنطن، وكيفية قيامها بتوظيف هيمنتها على عالم القطب الواحد، من أجل تخريب العلاقات التاريخية بين روسيا ودول آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية. وأيضاً تخريب العلاقات الثنائية بين روسيا والعديد من دول الشرق الأوسط، وخصوصاً الدول العربية، والتي تتطور باضطراد، وهذا ما نجد ترجمته في تعزيز مستوى التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والانفتاح الثقافي. تريد واشنطن توريط هذه الدول في الحرب الأوكرانية، بما يتناقض مع مواقفها الرسمية، وثباتها على الدعوة إلى إنهاء الصراع لا تأجيجه. الأمر الذي يؤدي في النهاية الى تعزيز نفوذ أميركا وحدها على حساب الجميع.
يشير تقرير نشرته صحيفة "كييف بوست" أواخر نيسان (أبريل) الماضي، إلى أنَّ واشنطن "اشترت 81 طائرة حربية سوفياتية قديمة من كازاخستان، من أجل إرسالها إلى أوكرانيا لاستخدام قطع غيارها، حيث توجد مثيلاتها في الخدمة في ظل الاعتماد المستمر من قبل القوات المسلحة الأوكرانية لأسلحة الحقبة السوفياتية". وحسب تقرير نشره موقع "بزنس إنسايدر" الأميركي، فإنَّ هذه الطائرات هي من طراز "ميغ 31"، وقاذفات قنابل مقاتلة "ميغ 27"، ومقاتلات ميغ 29"، وقاذفات "سوخوي 24"، كانت كازاخستان التي تعمل على تحديث أسطولها الجوي، عرضتها للبيع في مزاد علني، فـ"قامت واشنطن بشرائها عبر كيانات تجارية بغرض التمويه".
علاوة على ذلك، استغلت واشنطن الظروف الاقتصادية الصعبة لبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي، ليس فقط من أجل تحريضها ضد موسكو، بل أيضاً لشراء أسلحة سوفياتية منها، وهي التي ورثت ترسانة هائلة منها عقب تفكك الاتحاد السوفياتي. من الأمثلة البارزة جمهورية مولدوفا، والتي سبق أن اشترت منها أميركا طائرات "ميغ 29" حسب تقرير نشره موقع "ناشونال إنترست" الأميركي، وأيضاً عبر كيانات تجارية.
نهج تخريبي
وفق تقارير إعلامية غربية، تقوم واشنطن بتجميع هذه الأسلحة في بعض قواعدها العسكرية في دول الشرق الأوسط، ومنها إسرائيل، وكذلك عبر الأراضي اللبنانية. فرغم عدم امتلاكها قاعدة عسكرية في لبنان، إلا أنها تتمتع بحرية الحركة في قاعدة "حامات" العسكرية الجوية، شمال العاصمة بيروت، ذات الموقع الجغرافي المميز على رأس جبل يشرف مباشرة على البحر المتوسط.
وسبق أن نُشرت العديد من التقارير في وسائل الإعلام اللبنانية التي تتحدث عن نشاط أميركي "ليلي" سري الطابع في هذه القاعدة، خاصة بعيد اندلاع الصراع في أوكرانيا. تستفيد واشنطن من نفوذها في لبنان لإشهار "فيتو" يمنع تزويد جيشه بأسلحة روسية، رغم المبادرات الكثيرة التي قدمتها موسكو لبيروت في هذا الصدد، وتستعيض عنها بإرسال شحنات محدودة من أسلحتها ومعداتها التي أخرجت من الخدمة.
كما تشير المعلومات إلى أنَّ واشنطن تستخدم بعض قواعدها الأخرى في الشرق الأوسط، ولا سيما في عدد من البلدان العربية حيث لديها وجود عسكري. بيد أن التركيز ينصب على لبنان وإسرائيل بالدرجة الاولى، بسبب موقعهما على البحر المتوسط، بما يسهل عملية نقل هذه الأسلحة فيما بعد إلى القارة الأوروبية في الجانب الآخر من المتوسط. وفي حالات أخرى، ترسل واشنطن الأسلحة الروسية والسوفياتية التي قامت بتجميعها في أماكن أخرى الى الأراضي البولندية عبر طائرات الشحن الجوي.
وبالتالي فإنَّ أميركا لا تكتفي بتقويض سيادة هذه البلدان، وتعريض أمنها القومي للخطر، بل الأخطر من ذلك أنها تريد إظهارها بمظهر الداعم للقوات المسلحة الأوكرانية. علاوة على أن هذه السياسات تعزز من صدقية الشكوك التي تحيط بوجود القوات الأميركية في المنطقة، وبأنها ما كانت يوماً عامل استقرار وفق ما تزعم، بل كان هدفها على الدوام زعزعة الاستقرار وتقويض الأمن العالمي، بما يخدم المصالح الأميركية فقط أولاً وآخراً.
ومع ذلك، فإنَّ المساعدات التي تغدقها أميركا على أوكرانيا، سواء كانت غربية أم سوفياتية، لا تتيح لكييف تحقيق أي نجاح ميداني، في ظل موازين القوى على أرض المعركة، ولا سيما غداة التقدم المضطرد الذي تسجله القوات المسلحة الروسية في الأسابيع الأخيرة. أقصى ما يمكن أن يحققه هذا السيل المتدفق من المساعدات، هو إلحاق أكبر قدر من الضرر بالشعبين الروسي والأوكراني، وزيادة الضغط على الأمن العالمي، ولا سيما الأمن الاقتصادي للعديد من دول أوروبا الغربية والشرقية، ودول الشرق الأوسط المثقلة أساساً بالأزمات.