وبحسب ما نقلته "القدس العربي" عن صحيفة "يديعوت" الإسرائيلية، فقد أرفقت الأخيرة مع المعلومات التي قالت إنها انفردت في نشرها، صورا ورسومات هندسية للمبنى المستهدف في شارع فردان، والذي وقعت فيه عملية التصفية لكل من الشهداء كمال عدوان، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، التقطتها وكيلة الموساد التي تجولت في بيروت قبيل القيام بالجريمة.
وتروي الصحيفة أن قوات الكوماندوز الإسرائيلي تدربت على العملية في ساحل تل أبيب، وتقول بخلاف ما كان شائعا أن فكرة ارتداء إيهود باراك قائد العملية زياً نسائيا ليس هو نفسه، بل قائد جيش الاحتلال دافيد بن إلعازر، الذي خشي من انفضاح أمر المجموعة إذا اقتصرت على الرجال، خاصة أن الزي النسائي يتيح تخبئة المزيد من السلاح.
وتشير الصحيفة إلى أن بن العازر قائد الجيش الذي انتحر بعد حرب 1973 لعدم تحمله صدمة الحرب وخسائرها البشرية الباهظة، اقترح الزي النسوي مبتسما وهو يقصد حمالات الصدر التي ارتداها باراك وبعض جنوده.
وينبه كاتب التقرير في الصحيفة محرر الشؤون الاستخباراتية رونين بيرغمان، أن قصصاً كثيرة نشرت حول العملية في قلب بيروت عام 1973، مؤكدا أن بعضها شائعات وأساطير نبتت وكبرت مع الأيام، وبعضها قاسٍ لم ينشر بعد.
وبرأي بيرغمان تعود جذور العملية هذه للعام 1968 مع بدء عمليات خطف فلسطينيين طائرات لإدخال القضية الفلسطينية للوعي العالمي، وأن إسرائيل رغبت بالرد بالمثل. كما كشفت الصحيفة عن حيازة الجنود الإسرائيليين لغاز مسيل للدموع، بهدف استخدامه ضد محاولة تدخل محتملة من قبل جيران المستهدفين.
ويقول إنّ أفراهام بن بورات ضابط الاستخبارات في وحدة العمليات "قيساريا" داخل الموساد، قال في أحد اجتماعات الجهاز المصاب بالإحباط نتيجة العمليات الفلسطينية: "لا أفهم لماذا نجلس هنا بهدوء فيما يخطط الفدائيون كيف يقتلون يهودا ونحن نعرف مقراتهم ومساكنهم"؟
عملية ميونيخ
وعلى خلفية ذلك بادرت "قيساريا" لتشكيل وحدة سرية لجمع المعلومات تدعى "كيدون" (رمح) في منتصف 1969، لكن رئيسة حكومة الاحتلال وقتها غولدا مائير رفضت القيام بعمليات ضد مقرات فلسطينية في دول غربية احتراما لسيادتها حتى وقعت عملية "ميونيخ" عام 1972، حيث قررت إسرائيل بعدها تصعيد سياسة الانتقال من الدفاع للهجوم".
وبعد سلسلة اغتيالات بحق ناشطين فلسطينيين في أوروبا، رغبت إسرائيل بالمزيد من الانتقام، وبتنفيذ عملية في لبنان أيضا تهدف للمساس بقادة المقاومة الفلسطينية.
ومن ضمن تلك العمليات مهاجمة مخيمين للاجئين شمال طرابلس في مطلع 1973، حيث قتل فيها عدد من الفلسطينيين وأصيب عدد من الجنود الإسرائيليين، مما أظهر إمكانية القيام بعملية في عمق أراضي "العدو".
ويكشف بيرغمان استنادا للوثائق التاريخية أن ضابط وحدة المظليين عامنوئيل شاكيد، قد امتدح لياقة الفدائيين الفلسطينيين في المخيمين المستهدفين، فلم يرق لغولدا مائير، التي أسكتته وطلبت منه تسميتهم بـ"العرب" معللة ذلك بأنه "لأنه لا يوجد شعب فلسطيني"، وحذرته قائلة: "في حال استمريت بما تقوله سأهتم بإبعادك من الجيش".
أبو جهاد وأبو إياد
وبتوجيه من غولدا مائير، انطلقت عملية التخطيط لعملية في قلب بيروت، واحتار الجميع كيف سيتم الحصول على خريطة التقسيمات الداخلية للشقق السكنية للقيادات الفلسطينية المستهدفة داخل عاصمة عربية معادية؟ وتلمح الصحيفة إلى أن عميلاً غير إسرائيلي بدأ في تشرين الأوّل 1972 بتوفير معلومات أولها عناوين بيوت أربعة قادة فلسطينيين وهم خليل الوزير والكمالان وأبو يوسف النجار.
وتقول إن إسرائيل راهنت وقتها على استهداف الشهيد صلاح خلف أبو إياد لقضائه وقتا طويلاً في بيوت زملائه المذكورين في شارع فردان بزاوية خالد بن الوليد، فيما كانت شقة أبو جهاد في موقع آخر من بيروت. وتزعم الصحيفة أنه علاوة على عناوين القيادات تم الحصول على معطيات حول أهداف أخرى في لبنان، منها ورشات سلاح ومقرات ومكاتب.
ومن أجل استكمال المعلومات الناقصة قرر الموساد إرسال عميلة لبيروت تدعى ياعيل باسمها المستعار "نلسن" وهي يهودية من كندا جاءت لـ"كتابة سيناريو تلفزيوني" بعدما نجحت بالحصول على اتفاق من شركة إنتاج بريطانية، فوصلت إلى لبنان في 14 كانون الثاني 1973. وبعد إقامة لعدة أيام في فندق "بريستول" في بيروت، استقرت في شقة مستأجرة مقابل الأبراج السكنية التي سكنها قادة المقاومة الفلسطينية المستهدفين وسرعان ما كسبت أصدقاء محليين لمساعدتها في مهمتها "التلفزيونية".
توثيق بالكاميرا
وما لبثت عميلة الموساد أن أخذت تتجول في الحي مغطية عينيها بنظارة شمس وزي طويل كي لا تلفت الأنظار، مع كاميرا داخل حقيبتها تم تشغيلها بكبسة زر خارجي وبعض صورها نشرت في "يديعوت أحرونوت" للمرة الأولى وتم التقاطها بطلب من الموساد، ومن ضمنها صورة لحارس العمارة التي أقام بها الشهيد كمال عدوان.
وتشير الصحيفة إلى أن عميلة الموساد سجلت كلّ ما شاهدته ورصدته وأحيانا من نافذة شقتها حتى التفاصيل الصغيرة كما حصل قبيل اغتيال أبو علي حسن سلامة بعد ست سنوات: "متى يشعل الضوء في الشقق السكنية ومتى يخبو والسيارات التي تدخل وتخرج من الحي". وتكشف الصحيفة أن حراسا في الحي استجوبوها وهي عائدة من دكان للخضراوات فأبلغتهم أنها تقيم في شقة قريبة وما لبثوا أن تركوها.
وساهمت العميلة في توفير معلومات وصور خاصة فيما قام الموساد بوضع ألبوم صور خاصة لكل من القادة المستهدفين. كما جمعت معلومات عن محطة للشرطة اللبنانية في الحي، وعن شركات تأجير سيارات فخمة أمريكية الصنع في بيروت كان الموساد بحاجة لها لنقل عناصره من ساحل بيروت لشارع فردان.
ويوضح بيرغمان أن إيهود باراك قائد وحدة خاصة "وحدة القيادة العامة" ألغى خطة سابقة بموجبها يقوم 100 جندي باحتلال الحي وإخراج سكان الأبراج الثلاثة والتعرف على قادة فتح وقتلهم معتبرا إياها خطة خطيرة وغير عملية مقدما مقترحا بديلا.
وحسب الخطة الجديدة يتم نقل عدد قليل من العناصر بواسطة وحدة البحرية الخاصة "13" لساحل بيروت ومنه لفردان بمراكب مستأجرة ومفاجأة القادة المستهدفين، وقتلهم والإنسحاب سريعا قبل وصول إمدادات.
العصافير داخل القفص
وفي السادس من نيسان 1973، بدأت العملية بسفر ستة من عناصر الموساد لمطار بيروت الدولي بجوازات سفر مزورة، واستقروا في فندق "سندس" واستأجروا مراكب أمريكية ضخمة وفي اليوم التالي التقوا في فندق الانتركونتيننتال مع عميلة الموساد الكندية وسلمتهم ما بحوزتها من مواد. وبعد يومين أبلغتهم بلغة الشيفرة أن “العصافير في القفص” في إشارة لعودة القادة الفلسطينيين ليلا لمنازلهم.
ونقل 19 زورقا مطاطيا الجنود الإسرائيليين من بوارج عسكرية رست في عرض بحر بيروت لساحلها، وهم 21 من جنود وحدة قيادة الأركان و34 من الكوماندوز البحري و20 جندياً مظلياً.
كانت هذه "رأس الحربة" فقط، فمن خلفهم شارك عدد كبير من الإسرائيليين في عملية اغتيال القادة الثلاثة في بيروت، وهي ربما تكون أكبر عملية اغتيال في القرن العشرين.
قوات برية وبحرية وجوية انتظرت في حالة تأهب بلغ عدد الجنود فيها 3000 جندي وموظف أغلبيتهم لم يعرفوا تفاصيل العملية. وتتابع الصحيفة: "عندما وصلت الزوارق قريباً من الساحل حمل عناصر الوحدة 13 جنود وحدة هيئة الأركان على أياديهم كي لا يتبللوا ويفسد الغطاء النسائي الذي اختبأوا فيه ومن هناك أقلتهم سيارات مستأجرة أمريكية كانت تنتظرهم بجوار الفندق المذكور".
إيهود باراك الذي كان ينتحل شخصية امرأة أمر القوات بالتحرك. وعن ذلك يقول مستذكراً: "جلست بجوار عنصر من الموساد كان يقود سيارة وهو يتصبب عرقا ويرجف خوفا واعتقدت أنه مريض ولما سألته تهرب لكنه ما لبث أن اعترف أنه يخاف لأن هذه أول مرة يشارك في عملية ستشهد تبادلا للنار فقمت بطمأنته بأن ذلك لن يحصل رغم علمي أن معركة تنتظرنا".
وحسب الرواية الإسرائيلية توقفت السيارات الأمريكية على بعد شارعين من الهدف، وبدأ الجنود الإسرائيليون يسيرون نحوه بأزواج عند الساعة 11 ليلا فيما كان باراك يمسك بذراع جندي وكأنهما زوجان يقومان بنزهة رومانسية فيما ما زال بعض المارة يتجولون في الشوارع.
وحسب الرواية كان الحارسان قبالة عمارتي المستهدفين يغطان بنومهما داخل سيارتيهما وأخذ الجنود يصعدون وهم يعدون درجات البناية وطوابقها كي يتثبتوا من مداهمتهم الشقة المستهدفة لا غيرها.
شهامة كمال ناصر
ويقول بيرغمان إن الجنود المهاجمين فجروا أبواب الشقق الثلاثة بلحظة واحدة مما تسبب بقتل سيدة تقيم في شقة مقابلة وعندئذ فهم أبو يوسف النجار ما جرى فانسحب لداخل البيت، لكنه قتل وزوجته. فيما تمكن كمال عدوان من إطلاق النار على مهاجميه بمسدسه وأصاب أحدهم، أما كمال ناصر فخرج ببندقية من طراز كلاشنكوف وأشهرها، لكن الأمور اختلطت عليه وهو يرى رجلا ومعه سيدة فكانت لحظة التردد هذه كلفته حياته ثمنا لها، حيث أطلق عليه رصاص من بندقية عوزي قصيرة من تحت ثياب الجندي المنتحل شخصية امرأة.
ولاحقا ومع دوي الانفجارات والرصاص استيقظ الحارسان لكن إيهود باراك وعمرام لفين سارعا لقتلهما بمسدس كاتم صوت فيما أصابت رصاصة صافرة السيارة مما تسبب باستيقاظ أهل الحي واستدعوا الشرطة اللبنانية التي وصلت بعدة سيارات وما لبثت أن وقعت في كمين باراك وقواته داخل السيارات الأمريكية في الشارع قبالة الأبراج السكنية المستهدفة.
فرحة ما تمت
وتقول الرواية الإسرائيلية إن القوات قتلت عددا من قوات الشرطة والدرك اللبنانية، قبل أن تفر بالسيارات الأميركية من المكان، وفي الطريق كانوا ينثرون مسامير فولاذية لتخريب دواليب السيارات التي كانت تلحق بهم وهم هاربون نحو الساحل. أمّا القوة الإسرائيلية التي هاجمت مقرا للجبهة الشعبية في مكان آخر من بيروت فتعرضت لنيران حارس فلسطيني لم يكتشفه المهاجمون فأصاب أحدهم وقتل جنديين آخرين.
وفي شهادته يقول قائد القوة، أمنون ليبكين شاحك، إن أحد عناصر الموساد هرب من المعركة مع عناصر الجبهة الشعبية ووجد لاحقا على الساحل ينتظر عودة زملائه وبين أصابعه المرتجفة سيجارة.
كما نشر في السابق عدة مرات نقلت القوارب الجنود الإسرائيليين للبوارج في عرض البحر وانتهت العملية. ويقول ايهود باراك الذي انتخب في 1999 رئيسا للحكومة إنه عاد لبيته عند الفجر ووجد زوجته نائمة فوضع أغراضه ونام وعندما استيقظت في الصباح واستغربت وجود مساحيق نسائية في وجهه وأحمر الشفاه على شفتيه.
ويقول بيرغمان إن إسرائيل امتلأت فخرا واعتزازاً لنجاحها بعملية جريئة في قلب بيروت، لكنها "فرحة ما تمت" فصافرات الإنذار ملأت الفضاء بعد شهور منذرة بنشوب حرب 1973 التي سددت إسرائيل ثمنا باهظاً جدّاً فيها.
وعن ذلك يقول باراك: "يبدو أن الطبقة السياسية استنتجت استنتاجا خاطئا من تلك العملية، فامتلأت بثقة زائدة بالنفس لحد الغرور، وكأن الجيش قادر على كلّ شيء بعد نجاح عملية محددة ولم نعتقد أن العرب قادرون على مفاجأتنا ويسببوا لنا الهزة ذاتها".