إستطاع الترابي أن يثير الجدل في صفوف الإسلاميين وخصومهم على السواء، وهو الشخصية التي كانت وراء البشير ومكنته من الإنقلاب على النظام الديمقراطي ويؤسس لنظام عسكري إسلامي كان حينها الوحيد في العالم العربي وبقي ليشكل أطول حكم استبدادي عمراً في السودان.
واختلاف تاريخ الحركات الإسلامية في السودان لايقتصر على علاقتها بالعسكر، بل بأمور عدة أبرزها ما يتعلق بتعريف الأحزاب والحركات الإسلامية نفسها. فعلى عكس معظم الدول العربية أيضاً تصنف الأحزاب التقليدية القديمة في السودان على أنها أحزاب إسلامية، وبالتحديد الحزبين الأعرق والأشهر في البلاد حزب الأمة والحزب الاتحادي.
هذان الحزبان لديهما مرجعية إسلامية قديمة نشأت قبل ظهور الإسلام السياسي الحديث في مصر عبر جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها مرجعية تختلط بالطائفية والقبلية والعائلية والمناطقية.
ومع بداية دخول تأثيرات الإخوان المسلمين إلى السودان، كانت المشكلة لدى أعضاء حزب الأمة في العلاقة مع الإخوان ليس كونهم إسلاميين بل بسبب كون الإخوان المسلمين حركة مصرية المنشأ، لأن الثورة المهدية التي نشبت ضد حكم أسرة محمد علي لمصر كان دوماً لديها حساسية تجاه الهيمنة المصرية على السودان.
وبعد تولي البشير والترابي الحكم، انتقل حزب الأمة إلى خانة المعارضة بل وكون مع بعض فصائل المعارضة التجمع الوطني الذي اتخذ من العاصمة الإرتيرية مقراً له منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي قبل أن يعقد مصالحة مع النظام في جيبوتي عام 1999 عاد إثرها الصادق المهدى ورفقاؤه إلى السودان ليمارسوا نشاطهم من الداخل.
وإثر ذلك كان حزب الأمة يتمتع بوجود جماهيري كبير على مستوى الولايات، لكون قياداته ظلت جاهزة بمعارضتها لحكم البشير. وعلى غرار حزب الأمة، يمكن وصف الحزب الاتحاد بحزب إسلامي تقليدي، مع العلم أنه كان أقرب للحركات الإسلامية الحديثة مثل الإخوان المسلمين من حزب الأمة.
ولا يعود ذلك فقط إلى إسلامية الحزب ذات الجذور الصوفية بل أيضاً بسبب علاقة الحزب الحميمية تجاه مصر الذي تظهر في اسمه الاتحادي من الوحدة مع مصر، الأمر الذي جعل الحزب لا يعاني نفس حساسية الأمة تجاه كل ما هو مصري.
نشأة الإخوان المسلمين المتعددة في السودان
تعددت الحركات المنسوبة للإخوان المسلمين في السودان، كما اتسمت دوماً بأزمة علاقتها مع الحركة الأم مع مصر، في ضوء اختلاف السودانيين أنفسهم حول الموقف من هذا البلد الجار الذي كان السودان تابعاً له من الناحية الرسمية على الأقل حتى جلاء الاستعمار.
وظلت الحركة المحسوبة على الإخوان المسلمين في السودان تعاني الانشقاقات والخلافات والضعف إلى أن ظهرت قيادة الدكتور حسن الترابي مطلع عام 1964، حين عاد من فترة دراسية في باريس وتولى عمادة كلية الحقوق في جامعة الخرطوم، ثم ما لبث أن لمع نجمه بسبب دوره البارز في انتفاضة شرين الأول 1964 التي أطاحت بالحكم العسكري. وقد رشحته هذه المؤهلات لقيادة الحركة.
ورغم تزايد قوة الحركة النسبي تحت قيادة الترابي، إلا أنها عانت من الخلافات بسبب نهج الترابي الذي رآه كثيرون مخالفاً لنهج الإخوان التقليدي، وعده آخرون يتضمن اجتهادات مخالفة للإسلام.
وقد تصاعدت الخلافات حتى بلغت مرحلة الانشقاق بعد فشل المدرسة التقليدية في إزاحة الترابي من القيادة في مؤتمر عُقد في نيسان عام 1969. ويعد الانشقاق بين الترابي والفصيل الأكثر قرباً لطرق الإخوان المسلمين التقليدية، ازدادت قوة جناح الترابي الذي أصبح حليفاً للدكتاتور جعفر النميري.
في المقابل، شكَّل حسن الترابي الجبهة الإسلامية القومية، وهو التنظيم الذي جرى الخلط بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين رغم الانفصال بينهما. ثم قامت الحركة بتدبير انقلاب في حزيران 1989 استولت بعده على السلطة، حيث أصبحت بذلك أول حركة إسلامية حديثة تتولى السلطة في العالم، وبدا أنه حقق مراده بل حاول أن يصبح زعيماً للحركة الإسلامية في العالم الإسلامي برمته.
وبعد الخلاف مع البشير، التفَّ جزء من الإسلاميين حول الترابي باعتباره يمثِّل استمراريةً للمشروعية التاريخية للحركة الإسلامية، ولكن حكومة عمر البشير قد حاصرت هذه الحركة، وقد اعتمدت الحركة بشكل كبير على السمة القيادية للترابي الذي تمتَّع بعلاقاتٍ دولية وإقليمية كبيرة.
وسرعان ما أسَّس حسن الترابي حزب المؤتمر الشعبي عام 2001، وظلَّ الحزب في مقاعد المعارضة حتى العام 2017.
ومع الإطاحة بنظام البشير برزت تيارات إسلامية جديدة لم تكن معروفة بشكل واسع سابقاً وأبرزها تيار نصرة الشريعة ودولة القانون بزعامة الدكتور محمد علي الجزولي والذي أعلن رفضه القاطع لأي اتفاق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير لا يتضمن إشراك جميع القوى السياسية في البلاد والتأكيد على قضية الشريعة كمصدر أساسي للتشريع في البلاد.
وقد نظم هذا التيار عدة مواكب دعماً للشريعة في مواجهة المد اليساري الذي تمثله قوى الحرية والتغيير بحسب تيار نصرة الشريعة.
بعد سقوط البشير
أمّا بعد سقوط البشير، هل مازال للإسلاميين شعبية في السودان؟. اليوم، يجد الإسلاميون أنفسهم في وضع حرج بعد سقوط حكومة البشير وعدم قبولهم من قبل كثير من المتظاهرين، رغم تسجيلهم حضوراً في الاحتجاجات التي قادت لعزل البشير.
ولكنَّ آخرين يرون أنه بعد كل هذه السنوات ولدت الحركة الإسلامية عدداً من الأحزاب التي لا تزال تحتفظ بشيء من تأثيرها على عامة الناس في السودان. ويمكن أن
يجد الإسلاميون الفرصة للعودة، إذا أُجريت انتخابات.