كتب خضر حسان في "المدن": "يُحكى في كتب التاريخ أن الفينيقيين كانوا روّاد التجارة والربح. ومنهم اكتسب اللبنانيون صفة "الشطارة" أينما حلّوا في دول العالم. واللبناني الشاطر في أي مكان، ليس بالضرورة أن يكون تاجراً، بل هو في نظر الكثيرين "شاطر بالفطرة"، يعرف تماماً تدبير أموره والنفاذ إلى أي عمل يريده، ويعرف كيف يستفيد من الظروف المحيطة به. لكن ما لم يتصوره بعض أحفاد الفينيقيين، هو تحوّلهم إلى "شبيحة" ينهشون لحم بعضهم البعض بحجة اقتناص الفرص. وليست بورصة تسعير الدولار التي تعيشها البلاد اليوم، سوى انعكاس لمفهوم التشبيح الحقيقي، الذي يولد في ظل الفوضى وانعدام الحزم في تطبيق القانون.
انتقل السوق اللبناني من حالة رفع أسعار السلع بشكل عشوائي مع كل عيد أو مناسبة، أو حتى تلويح بصعوبات اقتصادية، إلى حالة التلاعب بسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. وهذا يستدعي رفع معدّل القلق والخوف عند الجمهور، ويستتبع ردود فعل لا علاقة لها بعلم الاقتصاد. وهذا حال السوق ومؤسساته. إذ عمدت الكثير من المؤسسات التجارية والمالية إلى إجراءات تشي بالتلاعب بسعر صرف الدولار، من تلقاء نفسها ومن دون قرار من مصرف لبنان، صاحب الرأي الأوحد في مسألة تحديد سعر صرف العملة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية. وهو حتى اللحظة يرفع شعار تثبيت سعر الصرف، ولم يرفعه إلى المعدلات التي يتم التداول بها، والتي وصلت إلى حدود 1680 ليرة مقابل الدولار الواحد، يتحملها المستهلك.
التسعيرة الجديدة اعتمدتها نقابة أصحاب محال الأجهزة الخلوية، حيث رفعت سعر بطاقات التشريج المسبقة الدفع إلى نحو 40 ألف و500 ليرة، لبطاقة تشريج الشهر الواحد، بعد أن كانت تباع بنحو 38 ألف ليرة. والذريعة هي شراء أصحاب المحال للبطاقات بالدولار، بالتوازي مع دفع المواطنين ثمن البطاقات بالليرة اللبنانية، ما يدفعهم إلى تحمّل سعر الصرف المرتفع الذي وصل بالنسبة إليهم إلى نحو 1560 ليرة.
هذا الواقع لم يأتِ من فراغ، بل خلقه الصرّافون الذين استغلوا اتجاه المصارف التجارية للحفاظ على الدولار في خزائنها، والتقليل من تداوله في السوق. وهو ما رفع الطلب على الدولار وأوهم الناس والمؤسسات بوجود خطر على الليرة يستوجب التخلص منها، خوفاً من انخفاض قيمتها. وعلى هذا الأساس، بات الصرّافون المتنفس الوحيد أمام طالبي الدولار. والصرّافون لم يوفّروا جهداً لاستغلال الوضع، ملقين النتائج على عاتق التجار، الذين بدورهم أحالوا النتائج على المستهلكين، فرفعوا أسعار بعض السلع والخدمات بحجة ارتفاع سعر الصرف.
الكتلة النقدية بخير
إذا كان مصرف لبنان هو من يحدد سعر الصرف، فإن المصارف هي الطرف الأول الذي سيتحرك ويبادر إلى تعديل تعاملاته وفق السعر الجديد، في حال إقراره. والمصارف "تتعامل وفق الهامش الذي حدده مصرف لبنان"، حسب ما يؤكده رئيس وحدة الدراسات في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، الذي يشير في حديث لـ"المدن"، إلى أن المصارف "لا علاقة لها بأي حديث إعلامي حول سعر الصرف. فهذه الأحاديث آتية من بعض التجار وبعض الصيارفة لتبرير رفع الأسعار". وعموماً، يقول غبريل أن "أكثرية الكتلة المالية موجودة في المصارف، وكل ما يحصل في هذا الإطار خارج المصارف، هو أمر هامشي".
تقنياً، تمثّل عمليات التداول بين الشركات المالية ومؤسسات الصرافة "أقل من 1 في المئة مقابل أكثر من 99 في المئة لعمليات التبادل التي تحصل عبر المصارف، ما يدل على أن المناخ الطارئ في البلاد هو عمليات محدودة وظرفية، سببها خوف الناس وقلقهم خلال الفترة التي رافقت الحديث عن التصنيف الائتماني وانعكاساته على المستثمرين والاقتصاد"، على حد تعبير الخبير الاقتصادي غازي وزني.
ويبرر وزني، في حديث لـ"المدن"، خوف الناس والمستثمرين. ففي ظل الأزمة السياسية "شاع حديث عن أزمة اقتصادية وكلام حول مخاطر على القطاع المصرفي، وعدم تمكّن المودعين من سحب ودائعهم". وتزامن الخوف مع "الوضع النقدي والمالي الدقيق، والذي يفرض حسن إدارة السيولة بالعملة الأجنبية من خلال التفاهم بين المصارف التجارية ومصرف لبنان".
في المحصلة، "المرحلة الآنية ستهدأ بعد أسبوعين أو ثلاثة. ولا قلق على صعيد سعر الصرف طالما أن التداول بيد القطاع المصرفي".
يفتقد المواطن الإحساس بالطمأنينة، في بلد يسيطر عليه منطق "التشبيح" السياسي والاقتصادي والأمني. فكل فريق يغنّي على ليلاه، غير آبه بقانون أو نظام أو ما يسمى بـ"هيبة الدولة"، فالهيبة قتلتها الممارسات الفئوية من جهة، وتسيير البلاد بمنطق "المَونة" من جهة أخرى، ولم تعد عمليات الإنعاش الاصطناعي المتمثلة بتهديد الوزارات بالتدخل، أو حتى بتدخّلها لفترة قصيرة وبصورة موسمية على شاكلة الصدمات. وهذا ينسحب على تحرك وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش، عبر تقديمه إخباراً إلى النيابة العامة المالية مطالباً باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة تجاه نقابة أصحاب محال الأجهزة الخلوية.
فلو كانت للدولة هيبة، لما استطاع أحد التحرك خارج إطار القانون وقرارات الدولة. إذ ليس هناك ما يبرر تغيير سعر الصرف بالممارسة، من دون قرار رسمي من المصرف المركزي، حتى لو كان هناك شحاً في تداول الدولار في السوق. فإن لجأ التجار إلى رفع أسعارهم بحجة ارتفاع سعر الدولار تفادياً للخسارة، فمن يعوّض خسارة الناس حين يشترون السلع بسعر أعلى من المعهود؟ فالناس هي الحلقة الأضعف ولا يحميها إلا القانون. وأين القانون في دولة لا يلتفت سياسيوها إلى أحوال الناس؟".