أخبار عاجلة
مصر: نؤكد دعمنا لرؤية ترامب بشأن السودان -
بيان توضيحي من جبال البطم بشأن حادثة اليونيفيل -
توقيف 10 أشخاص بجرائم مختلفة خلال شهر -
خط أحمر من ترامب لنتنياهو: لا حرب مفتوحة في لبنان -
أجهزة منزلية شائعة تهدد الصحة.. ما هي؟ -
ترامب يستهزئ بالشائعات -
مؤتمر لدعم الجيش اللبناني في شباط -

مقاربة دستورية وقانونية للوجود الفلسطيني

مقاربة دستورية وقانونية للوجود الفلسطيني
مقاربة دستورية وقانونية للوجود الفلسطيني

كتب دريد بشراوي في “نداء الوطن”:

دخل الفلسطينيون إلى لبنان ابتداءً من العام 1948 في إطار نزوح جماعي قسري ناتج عن النزاع المسلّح في فلسطين. ولم يتمّ هذا الدخول وفق الأصول القانونية المعتمدة لدخول الأجانب، بل جاء نتيجة انهيار الأوضاع الأمنية وغياب أيّ تنظيم حدودي فعلي. وبالتالي، فإن الأساس الأوّل للوجود الفلسطيني هو أساس إنساني استثنائي، لا أساس قانوني أو سيادي أو وطني دائم. ويُضاف إلى ذلك دخول الفلسطينيين لاحقًا، وبأعداد كبيرة وغير منضبطة، إلى الأراضي اللبنانية بطريقة غير قانونية وغير شرعية.

وتُعدّ مسألة الوجود الفلسطيني في لبنان إحدى أعقد القضايا القانونية والدستورية والسيادية في تاريخ الدولة اللبنانية المعاصر، لما تنطوي عليه من تداخل بين الاعتبارات الإنسانية، والالتزامات الدولية، والمقتضيات الدستورية، ومبدأ السيادة الوطنية. وقد أدّى غياب أيّ معالجة قانونية شاملة منذ العام 1948 إلى نشوء وضع استثنائي طويل الأمد، جرت إدارته سياسيًا وإنسانيًا، من دون أن يُحسم أو يُقنّن قانونيًا أو دستوريًا.

وعليه، فإن الأساس الإنساني لا يرقى، بذاته، إلى مرتبة المشروعية الدستورية الدائمة، بل يفترض بطبيعته طابعًا موقتًا، وإدارةً قانونية من الدولة المضيفة، واحترامًا صارمًا لسيادتها ولنظامها الدستوري. وانطلاقًا من هذا الواقع، تطرح قضية الوجود الفلسطيني في لبنان مجموعة من المسائل الجوهرية، لا سيّما: الأساس القانوني والدستوري لدخول الفلسطينيين إلى لبنان وإقامتهم فيه، مدى شرعية هذا الوجود ودستوريته، دور الجامعة العربية، ودور الأمم المتحدة، إضافة إلى مسألة إمكان أو عدم إمكان ترحيل الفلسطينيين المقيمين بصورة غير شرعية.

أولًا: انعدام الأساس الدستوري والقانوني لإقامة الفلسطينيين في لبنان

إن انعدام مشروعية الوجود الفلسطيني في لبنان يستند ليس فقط إلى نصوص ومبادئ الشرعية اللبنانية، بل أيضًا إلى مبادئ القانون الدولي.

ألف: من حيث مبادئ ونصوص الشرعية اللبنانية

تقتضي معالجة هذه المسألة الارتكاز على شرعيتين أساسيتين: الشرعية الدستورية من جهة، والشرعية القانونية الداخلية من جهة أخرى.

1 ـ من حيث الشرعية الدستورية

نصّ الدستور اللبناني، ولا سيّما بعد دخول وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) حيّز التنفيذ، بشكل واضح لا لبس فيه على رفض التوطين رفضًا قاطعًا. وقد أُدرج هذا المبدأ صراحة في مقدّمة الدستور، التي تتمتع بقيمة دستورية ملزمة، حيث ورد فيها: “لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”.

وبناءً عليه، فإن أيّ وجود دائم أو منظم أو مؤبَّد للفلسطينيين بوصفه وضعًا نهائيًا يتعارض تعارضًا مباشرًا مع الدستور اللبناني. ويُضاف إلى ذلك أن الدستور لا يعترف بأيّ وجود فلسطيني سيادي أو شبه سيادي على الأراضي اللبنانية.

ويُستنتج من ذلك أن الوجود الفلسطيني، من منظور دستوري صرف، ليس وجودًا دستوريًا بالمعنى الإيجابي، أي أنه غير مؤسَّس على نصّ دستوريّ يقرّه، بل هو وجود فرضه الواقع السياسي والإنساني، من دون أن يتحوّل إلى حق مكتسب دستوريًا.

2 ـ من حيث الشرعية القانونية الداخلية

تجدر الإشارة إلى أن الدولة اللبنانية لم تضع، منذ عام 1948 وحتى اليوم، إطارًا تشريعيًا واضحًا ومتكاملًا ينظم وضع الفلسطينيين، ويحدّد حقوقهم وواجباتهم، وحدود إقامتهم، وآليات إنهاء هذا الوضع الاستثنائي. وما قامت به الدولة لم يتجاوز حدود قرارات إدارية، أو استثناءات ظرفية، أو تسويات سياسية موقتة. ويعني ذلك أن الوجود الفلسطيني لم يُنظم بقانون شامل صادر عن السلطة التشريعية، وبقي في منطقة رمادية تجمع بين التسامح الواقعي والفراغ القانوني.

والأخطر دستوريًا وقانونيًا يتمثل في خروج بعض المخيّمات، تاريخيًا ولا يزال حتى اليوم، عن سيادة الدولة اللبنانية، ووجود سلاح فلسطيني خارج إطار الشرعية اللبنانية، واستعمال هذا السلاح ضد لبنان واللبنانيين، والقيام بعمليات إرهابية وغيرها انطلاقًا من الأراضي اللبنانية منذ عام 1968 وحتى اليوم، من دون أي حسيب أو رقيب، بل وبمساعدة بعض الفصائل اللبنانية. ويُعدّ ذلك خرقًا مباشرًا وفاضحًا لمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، ومساسًا بجوهر السيادة، الأمر الذي يُسقط أيّ ادّعاء بالمشروعية القانونية للوجود الفلسطيني.

وفقًا لذلك ولقانون تنظيم دخول الأجانب إلى لبنان وإقامتهم فيه وخروجهم منه (1962)، فإن كل أجنبي دخل الأراضي اللبنانية من دون إذن قانوني، أو أقام بعد انتهاء مهلة الإقامة، يُعدّ مقيمًا بصورة غير شرعية. وبهذا المعنى، فإن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين الذين دخلوا لبنان منذ العام 1948، وكذلك بعد هذا التاريخ، لم يدخلوا وفق الأصول القانونية المعتمدة، إذ لم تُمنح لهم تأشيرات ولا إقامات، ولم يخضعوا لأي ضبط حدودي، كما لم تُسوَّ أوضاعهم لاحقًا بقانون تشريعي شامل.

ومن ثمّ، فإنهم يُعدّون، من حيث النصّ القانوني، أجانب في وضع غير نظامي، فهم ليسوا مهاجرين عاديين، ولا سائحين مخالفين لشروط الإقامة، بل هم لاجئون غير شرعيين بحكم الواقع والتاريخ، ولو لم يُمنحوا هذا الوصف بتشريع داخلي واضح، ويمكن ترحيلهم بقرار من الحكومة اللبنانية في أي وقت تشاء. ويُعتبر هذا الوجود غير شرعي من حيث الشكل القانوني، لكنه مُعطَّل الإبعاد من حيث التطبيق، لأسباب سياسية بحتة، ولغياب الجرأة لدى السلطة اللبنانية في اتخاذ القرارات اللازمة.

باء: من حيث القانون الدولي

يقرّ القانون الدولي الإنساني حق اللجوء والحماية الإنسانية، لكنه لا يفرض على الدولة المضيفة منح الجنسية، أو القبول بالتوطين، أو السماح بقيام كيانات مستقلة داخل أراضيها، أو الإقرار بإقامات غير قانونية. وبالتالي، لا يوجد أي التزام دولي يُلزم لبنان بجعل الوجود الفلسطيني دائمًا أو قانونيًا أو دستوريًا، إذ إن حق العودة هو الأصل، لا الاستقرار النهائي.

ومن هنا، يبرز دور الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ومدى تأثيرهما الإيجابي أو السلبي في مسألة الوجود الفلسطيني غير الشرعي في لبنان.

1 ـ دور الأمم المتحدة

لم تُنشئ الأمم المتحدة أي حق قانوني للفلسطينيين بالإقامة في لبنان، ولم تُلزِم الدولة اللبنانية بقبولهم كلاجئين دائمين، أو بمنحهم إقامات قانونية، أو بمنع ترحيلهم بوصف هذا المنع التزامًا مطلقًا. وقد اقتصر دورها على إدارة البعد الإنساني، وتكريس وضع استثنائي موقت، وتجميد الحلّ بدل إيجاد حلول فعّالة، بما فيها نقل اللاجئين إلى دول عربية قادرة على استيعابهم جغرافيًا وديموغرافيًا.

إن القرار رقم 194 (1948) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة نصّ على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم، لكنه لم ينصّ مطلقًا على توطينهم في الدول المضيفة أو منحهم حقوق إقامة دائمة. ومن الناحية القانونية، يعزز هذا القرار مبدأ الوجود الموقت، ويُضعف أيّ ادّعاء بشرعية الإقامة الدائمة في لبنان. يضاف إلى ذلك أنه لا يوجد أي قرار دولي صادر عن الجمعية العامة أو مجلس الأمن يُلزم لبنان بالاستضافة الدائمة للفلسطينيين، أو يمنعه من ترحيلهم، ولا سيّما الفلسطينيين المقيمين بصورة غير شرعية.

أما وكالة الأونروا (UNRWA)، التي أُنشئت عام 1949، فهي جهاز إغاثي موقت، لا جهاز توطين، ولا تتمتع بأي سلطة قانونية، ولا يمكنها منح صفة لجوء قانونية بالمعنى الدولي، أو جنسية، أو إقامات، كما أنها لا تحمي سيادة الدول المضيفة. ودورها يظلّ إنسانيًا بحتًا.

ومن منظور قانوني نقدي، ساهمت الأونروا في تكريس ديمومة الواقع الموقت من دون حلّ قانوني نهائي، وأسهمت في إفراغ الدولة المضيفة من مسؤولياتها السيادية، وإبقاء الفلسطينيين خارج أي إطار قانوني واضح. غير أن وجود الأونروا لا يشرعن الوجود الفلسطيني في لبنان، ولا يقيّد سيادة الدولة لا دستوريًا ولا بموجب القانون الدولي.

كما تنصّ اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951 على استثناء الفلسطينيين المشمولين برعاية الأونروا من ولاية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ما يعني قانونًا أن الفلسطينيين في لبنان خارج نظام الحماية الدولية الكامل، وخارج أي آلية لإعادة التوطين أو الإدماج القانوني.

ولا يوجد أي نصّ أمميّ صريح يمنع لبنان من ترحيل الفلسطينيين، إذ إن إبقاءهم في لبنان لا يستند إلى أساس قانوني وطني أو دولي، بل إلى اعتبارات سياسية وإنسانية عامة. وعدم الترحيل ليس التزامًا أمميًا مكتوبًا، بل تعطيلًا واقعيًا-سياسيًا.

2 ـ دور الجامعة العربية

الجامعة العربية ليست سلطة سيادية، ولا تملك صلاحيات تشريعية أو تنفيذية داخل لبنان. غير أنها لعبت دورًا سياسيًا عبر قرارات جماعية والتزامات ذات طابع أدبي-قومي أكثر مما هو قانوني، ولا سيّما قرارات مجلس الجامعة بعد عام 1948، وبروتوكول الدار البيضاء لعام 1965.

وقد نصّ هذا البروتوكول على معاملة الفلسطينيين معاملة قريبة من معاملة المواطنين في الدول العربية المضيفة، من دون منحهم الجنسية، ومن دون الإخلال بحق العودة. إلّا أن لبنان لم يطبّق هذا البروتوكول تطبيقًا كاملًا، وتعامل معه كالتزام سياسي لا كنص ملزم فوق الدستور، وهو موقف سليم دستوريًا وقانونيًا.

وبالتالي، فإن الجامعة العربية ساهمت في تكريس واقع عدم الترحيل، لكنها لم تُنشئ وضعًا قانونيًا أو دستوريًا دائمًا للفلسطينيين في لبنان، وموقفها هذا لا يُلزم لبنان لا دوليًا ولا عربيًا ولا وطنيًا.

ثانيًا: في إمكان أو عدم إمكان ترحيل الفلسطينيين المقيمين بصورة غير شرعية

يتوجب التمييز هنا بين المبدأ العام والواقع الفلسطيني في لبنان.

ألف: المبدأ العام

وفقًا للقاعدة القانونية العامة، يجوز ترحيل كل أجنبي مقيم بصورة غير شرعية. وهذا المبدأ ثابت في القانون اللبناني، ومتوافق مع الدستور ومع القانون الدولي. ولا يوجد أي نص دستوري أو دولي يمنع الدولة اللبنانية من إبعاد أفراد فلسطينيين دخلوا بصورة غير شرعية لاحقًا، أو تورّطوا بأعمال تمسّ الأمن أو النظام العام، أو لا تنطبق عليهم أي حالة لجوء جدّية أو أنهم يقيمون من دون أي إقامات قانونية ووفقًا للأصول المرعية الإجراء.

وقد أدّى الخلط المتعمّد بين الإبعاد الجماعي المرفوض في القانون الدولي الإنساني، والإبعاد الفردي القائم على مسوغات قانونية وأمنية، إلى شلل كامل في ممارسة الدولة حقوقها السيادية.

باء: الواقع الفلسطيني: لماذا لا يُطبَّق الترحيل؟

رغم صحة المبدأ المذكور أعلاه، فإن تطبيقه يصطدم بعوائق سياسية وإنسانية، لا قانونية، إذ إن الترحيل يفترض دولة مستقبِلة ووثائق سفر معترفًا بها. وفي حالة الفلسطينيين، لا تستقبلهم إسرائيل، ولا تقبل معظم الدول العربية توطينهم.

غير أن هذه الاعتبارات لا تنطبق على حالة الفلسطينيين المقيمين في لبنان بصورة غير شرعية، إذ يملك لبنان، من حيث المبدأ القانوني والسيادي، الحق في ترحيلهم إلى دول عربية عدّة على أساس الاستضافة الموقتة، كما فعل هو نفسه منذ عقود. ولا يمكن القبول بالسردية غير الواقعية وغير الدستورية التي يروّج لها البعض، والتي تفرض الإبقاء القسري على الفلسطينيين في لبنان إلى حين بلوغ ما يُسمّى حلّ الدولتين، إذ إن هذا الحلّ، في أحسن الأحوال، يظلّ افتراضًا سياسيًا نظريًا قد لا يتحقق قبل مئات السنين، ولا يجوز ربط سيادة دولة قائمة بمصير فرضية غير مؤكّدة.

ولا يجوز، تبعًا لذلك، أن تقبل الدولة اللبنانية بهذا المنطق التعطيلي، أو أن تحوّل الوجود الموقت للفلسطينيين إلى وجود دائم بفعل الامتناع المتعمّد عن اتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة، ولا سيّما إجراءات الإبعاد الفردي المستندة إلى أوضاع غير نظامية. وليس من مسؤولية لبنان، لا قانونيًا ولا دستوريًا، تأمين توطين الفلسطينيين توطينًا دائمًا، بل يترتب عليه، على العكس، تفعيل قنواته الدبلوماسية للتفاوض مع الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، التي تمتلك إمكانات جغرافية ومالية واقتصادية واجتماعية واسعة تؤهّلها لاستقبال عدد من الفلسطينيين الذين يجب ترحيلهم.

كما يتعيّن على الدولة اللبنانية مطالبة السلطة الفلسطينية بتحمّل مسؤولياتها، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاستقبال الفلسطينيين الذين قد يُرحَّلون من لبنان، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية. فلبنان، الذي لا يتجاوز عدد مواطنيه الأربعة ملايين نسمة، لم يعد قادرًا، لا ديموغرافيًا ولا اجتماعيًا ولا أمنيًا ولا ماليًا، على تحمّل وجود ما يقارب مليونًا ونصف مليون فلسطيني في وضع غير شرعي، فضلًا عن أكثر من مليوني نازح سوري. وعليه، فإن استمرار هذا الواقع يشكّل مساسًا مباشرًا بأسس الدولة اللبنانية وبقدرتها على البقاء، ولا يمكن تبريره تحت أي ذريعة إنسانية أو سياسية.

ثالثًا: مسؤولية وتقاعس الدولة اللبنانية

إن تقاعس الدولة اللبنانية وتلكؤها عن اتخاذ القرارات التنفيذية اللازمة لمواجهة أزمة الوجود الفلسطيني في لبنان أدّى إلى تفاقم هذا الوجود واستفحاله. وقد ظهر هذا التقاعس على صعد عدة تجلّت من خلال عدم صيانة السيادة اللبنانية وعدم اتخاذ القرارات السيادية والتشريعية والتنفيذية الضرورية للتصدي لهذا الوضع غير القانوني، ما أدّى إلى نتائج كارثية أمنية واجتماعية واقتصادية.

ألف: التقاعس السيادي

تقع على عاتق الدولة اللبنانية مسؤولية مباشرة نتيجة تقاعسها عن ممارسة صلاحياتها السيادية. فالدولة، وفق أبسط قواعد القانون الدستوري، تقوم على الشعب والإقليم والسلطة، ولا تستقيم صفة الدولة إذا امتنعت السلطة عن تطبيق قوانينها، أو عطّلت أدواتها التنفيذية، أو تخلّت طوعًا عن صلاحياتها الأساسية، ولا سيّما في ما يتصل بضبط الحدود وتنظيم الإقامة وحماية النظام العام.

إن مسؤولية الدولة اللبنانية في ملف الوجود الفلسطيني ليست مسؤولية سياسية أو أخلاقية فحسب، بل هي مسؤولية قانونية ودستورية مباشرة ناتجة عن تقاعسها منذ العام 1948 عن تنظيم الدخول والإقامة، وفرض احترام القوانين، وممارسة حقها السيادي في الإبعاد الفردي عند الاقتضاء.

باء: التقاعس التشريعي والتنفيذي

رغم مرور أكثر من سبعة عقود، لم يُقدم مجلس النواب اللبناني على سنّ قانون شامل يحدّد الوضع القانوني للفلسطينيين، ويضع آليات واضحة لتسوية الأوضاع غير الشرعية، ويحدّد حالات الإبعاد الفردي المبرّر قانونًا. ولا يمكن تبرير هذا الامتناع التشريعي بذريعة الاعتبارات الإنسانية، إذ إن حماية الكرامة الإنسانية لا تتعارض مع سيادة القانون، بل تفترضها.

كما امتنعت السلطة التنفيذية، في مراحل متعدّدة، عن تطبيق قانون دخول الأجانب وإقامتهم، ولا سيّما لجهة ضبط الدخول غير الشرعي، وملاحقة الإقامات غير القانونية الجديدة، واتخاذ قرارات إبعاد فردي بحق من دخلوا لاحقًا بصورة غير شرعية ولا يتمتعون بأي وضع لاجئ فعلي. ويُعدّ هذا الامتناع إخلالًا جسيمًا بواجبات السلطة التنفيذية، وتعليقًا غير مشروع للقانون، وتنازلًا فعليًا عن السيادة اللبنانية.

جيم: في نتائج التقاعس

إن استمرار هذا التقاعس لا يُنشئ حقوقًا مكتسبة للفلسطينيين، ولا يُضفي شرعية على الوجود غير القانوني، لكنه يُضعف الدولة، ويُقوّض مبدأ المساواة أمام القانون، ويُحوّل الاستثناء إلى قاعدة، والموقت إلى دائم، في إخلال واضح بمبدأ دولة القانون. كما أنه يؤدي إلى تفاقم واستفحال حالات الخروج على الشرعية اللبنانية وتهديد أمن اللبنانيين والاعتداء على سيادة الدولة اللبنانية بإقامة مناطق معزولة ومخيّمات مسلّحة داخل الدولة، وإلى تفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي للعديد من اللاجئين الفلسطينيين خصوصًا أولئك الذين يفتقرون إلى الطبابة والرعاية الإنسانية وإلى العمل وشروط العيش الكريم.

الخاتمة

إن الوجود الفلسطيني في لبنان نشأ عن ضرورة إنسانية استثنائية، لكنه لا يتمتع بأي صفة دستورية أو قانونية. فالدستور اللبناني يرفض التوطين رفضًا قاطعًا، ويمنع أي تكريس مباشر أو مقنع للإقامة الدائمة. كما أن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين دخلوا وأقاموا في لبنان بصورة غير شرعية من حيث النص القانوني.

إن عدم الترحيل لا يعني شرعية الوجود، بل يعكس تعطيلًا سياسيًا وقانونيًا للإبعاد. ولم تُنشئ لا الجامعة العربية ولا الأمم المتحدة أي التزام قانوني يقيّد سيادة لبنان في التنظيم أو في الإبعاد الفردي. وتبقى الدولة اللبنانية وحدها من يتحمّل مسؤولية جسيمة نتيجة تقاعسها التشريعي والتنفيذي عن تنظيم هذا الملف وممارسة صلاحياتها السيادية، ولا سيّما في ما يتعلق بالترحيل.

ويجدر التأكيد أخيرًا على أنه يجوز قانونًا إبعاد الفلسطينيين الذين دخلوا بصورة غير شرعية لاحقًا، أو الذين لا تنطبق عليهم أي حالة حماية، مع احترام الضمانات الفردية.

إن أخطر ما في ملف الوجود الفلسطيني في لبنان ليس النزوح بحدّ ذاته، بل تحوّل التقاعس الرسمي إلى سياسة، وتعليق القانون إلى قاعدة، والتخلّي عن السيادة إلى أمر واقع. فالإنسانية لا تُدار بالفوضى، والحقوق لا تُحمى خارج الدولة، والسيادة لا تُجزّأ تحت أي ذريعة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق قراءة في خطاب قاسم: تضخم لغوي أم مناورة؟
التالى رسالة إلى الحَبر الأعظم بلغة الحِبر الأعظم!