وعلى رغم اعتبار مهلة الـ 48 ساعة التي أعطاها الرئيس سعد الحريري كمهلة أخيرة لبت الموازنة قبل تحويلها إلى المجلس النيابي، فقد لوحظ أن محطة "أو تي في"، وتحت عنوان "بتخلص بس تخلص"، الذي سبق أن ردده الوزير باسيل، أشارت إلى أن "الموعد المقبل الجمعة، وإن لم يكن الجمعة، فالاثنين أو الثلاثاء وربما أكثر، لأن عامل الوقت لن يكون ضاغطاً هذه المرة، تماماً كأيّ عاملٍ مفتعل آخر، كالشعبوية والمزايدة أو التلويح بالوقوع في المحظور..."
هذا من حيث النظريات النسبية، التي تقابلها نظريات أخرى متناقضة وداحضة للأولى، إذ يقول أصحابها أنه لو أعتمد مبدأ الشفافية منذ البداية، ولو تمّ اللإلتزام بالمعايير القانونية الصرفة، وبعيدًا من منطق الصفقات، من خلال تطبيق حرفي لدفاتر الشروط وفق الأصول المتبعة، لما كان كل هذا التأجيل، ولما كان المواطن وقع تحت أعباء الديون المضاعفة، والتي أرهقت كاهله على مدى تسع سنوات، إن لم يكن أكثر، ولكان لبنان اليوم يتمتع مثلاًا بكهرباء متواصلة التيار على إمتداد الساعات الـ 24، من دون أن يضطرّ للخضوع لإبتزاز أصحاب المولدات، الذين تحكّوا برقابهم فترة طويلة من الزمن، أو على القل كان من الممكن تنظيم ما هو غير شرعي، كما حصل منذ فترة، حين رُكّبت العدادات تحت طائلة المسؤولية وملاحقة كل مخالف.
وفي حسبة بسيطة، وعلى طريقة حسابات جدتي، يتبيّن الفرق الهائل في الأسعار بين اليوم والأمس، إذ كان يدفع كل مشترك بـ 5 امبير وسطيًا، بين 60 و70 دولارًا شهريًا، فيما يدفع اليوم ما يقارب 40 الف ليرة، أي نصف المبلغ تقريبًا الذي كان يدفعه في السابق، وهو فرق جرّ على مدى سنوات.
على أي حال، فإن ما تكّشفت عنه نقاشات الجلسات الماراتونية من مقاربة للأرقام، وهي أتسمت بالحدّة أحيانًا، لم ينهِ ما في البلد من مشاكل متراكمة وموروثة ومستجدّة، وهي تقرّش دائمًا في السياسة وفي المواقف المتناقضة والمتباعدة، في النظرة وفي الإسترايجية، بين مختلف المكونات السياسية، التي تقف على حدّ السيف، مع ما يرافق هذا الجدل البيزنطي من تحركات شعبية، خصوصًا أن أصحاب الدخل المحدود وغير المقتدرين يعتقدون أن الحلول المالية تصيبهم في الصميم، وهذا ما يجعل المثل اللبناني مطبّقًا بحرفيته، وهو "أن القّلة بتولد النقار"، وهو أقرب ما يكون إلى الواقع الذي تعيشه البلاد، قبل أن تبصر الموازنة النور، وقبل أن تصدر بقانون من مجلس النواب.
وقد يكون ما تكّشف من النقاش في الأرقام أنه يخفي ما وراء الأكمة من تجاذبات سياسية بين الوزيرين باسيل وحسن علي خليل، على خلفية "التحكّم" بالقرار النهائي في ما خصّ الموازنة، التي يعتبر عدد لا بأس به من الوزراء أن ما تحقق بالنسبة إلى خفض العجز ليس بالأمر السيء، وهو مؤشر لسياسة طويلة الأمد، قد تكون تأسيسية لمراحل لاحقة، تدخل فيها الإصلاحات كبند أساسي في مشاريع الموازنات اللاحقة مستقبلًا، مع الأخذ في الإعتبار أن ما أنجز، وإن لم يكن قد لامس خطوط الإصلاح الجذري، يدخل في خانة "أفضل الممكن".